الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

سعيد الكحل: جذور الإرهاب عقائده             

سعيد الكحل: جذور الإرهاب عقائده              سعيد الكحل، باحث في قضايا الإرهاب والإسلام السياسي

تحل الذكرى 15 لأحداث 16 ماي الإرهابية التي عصفت "بالاستثناء المغربي" في ظروف سياسية واجتماعية خانقة بسبب السياسة العمومية التي تنهجها حكومة حزب العدالة والتنمية منذ 2011، والتي أدت إلى توفير بيئة مناسبة لتفريخ المزيد من العناصر المتطرفة وتشكيل الخلايا الإرهابية. ومن عناصر هذه البيئة:

1 ــ حالة الاحتقان الاجتماعي: إن من الأسباب التي تستغلها التنظيمات الإرهابية في استقطاب أتباعها وتجنيدهم لتنفيذ مخططات إجرامية، حالة التذمر والاحتقان التي يوجد عليها المواطنون، وخاصة الشباب، بسب البطالة والفقر المادي والفكري. والإجراءات التي اتخذتها حكومة البيجيدي الأولى والثانية من قبيل حذف صندوق المقاصة والرفع من نسب الضريبة على المواد وحذف التوظيف في القطاع  العمومي... وسّعت من دوائر الفقر وعمّقته كما رفعت من نسب البطالة والتهميش ومعدلات الجريمة؛ أي وفّرت للتنظيمات المتطرفة شرائح اجتماعية يخنقها الإحباط والفقر والتذمر ويولد فيها مشاعر الغبن والكراهية والحقد ضد المجتمع والدولة سرعان ما يستغله المتطرفون في استقطاب أعداد من العناصر المتذمرة  فتحوّل تذمرها وسخطها إلى ميول انتقامية من الدولة والمجتمع معا. فحين تنسدّ الآفاق أمام المواطنين، وخاصة الشباب، ويستبد بهم الشعور بالحݣرة، تتولد لديهم الميول العدوانية والرغبات الانتقامية. وما تفعله التنظيمات الإرهابية أنها تضفي الشرعية على تلك الميول وتجعلها "مطلوبة شرعا" بعد أن تقنعهم أنهم في مجتمع مرتد ونظام كافر لا يحكّم شرع الله.

2 ــ حماية شيوخ التطرف: بمجرد تشكيل حكومة البيجيدي الأولى تعالت أصوات شيوخ التطرف وتطايرت فتاواهم التكفيرية ضد السياسيين والمفكرين والفنانين والصحفيين والجمعويين، مستغلين علاقاتهم القوية مع حزب العدالة والتنمية وقياداته التي زار /استقبل عدد منها بعضَ رموز التطرف والإرهاب لطمأنتهم على توفير مظلة قانونية وإعلامية لأنشطتهم وتمكينهم من مؤسسات دينية وعلمية لتخريب عقلية روادها وطلبتها. هكذا صار دعاة التطرف يؤطرون عروضا ويلقون "محاضرات" في معاهد عليمة متخصصة بدعوة وحماية من أذرع البيجيدي وقطاعاته الموازية. وكل الدعاوى التي تم رفعها ضد عدد من شيوخ التكفير أقبرت، في تواطؤ صارخ، من وزارة العدل حينها. واستمرت حملة التكفير لتأخذ أبعادا أخرى مستغلة الفضاء الأزرق والإمكانات التي يتيحها أمام شيوخ الكراهية وفقهاء التكفير. بل إن مشروع القانون الجنائي الذي أشرف عليه وزير العدل والحريات حينها مصطفى الرميد جاء خاليا من تجريم فتاوى التكفير رغم الأصوات المطالِبة به ، مما يُعد تشجيعا لهؤلاء الشيوخ.

3 ــ التحريض ضد فئات من المواطنين: كان طبيعيا أن تنعكس الفتاوى التكفيرية على الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية عبر التحريض ضد فئات من المواطنين لا يتقاسمون مع المتطرفين وحزب البيجيدي عقائد الكراهية ومشروعهم المجتمعي. وتسربت فتاوى التكفير إلى مقررات مادة التربية الإسلامية بهدف إعادة تشكيل ذهنية الناشئة وفق ذات العقائد. كما لم تتوقف فئات من الخطباء وأئمة المساجد عن التحريض ضد المناضلات الجمعويات وضد هيئات مدنية أو حزبية طالبت بمراجعة منظومة الإرث، وقبلها دعت إلى رفع التجريم عن الإجهاض الطبي. فالسلاح الوحيد الذي يوظفه المتطرفون وحماتهم هو سلاح التكفير والتحريض ضد المخالفين والمطالبين/بات بالمساواة ورفع كل أشكال التمييز ضد النساء.

لا شك أن خطورة عقائد التكفير وفقه الكراهية يهددان مباشرة وحدة النسيج المجتمعي الذي أنتج ثقافة التسامح وأشاع فقه الاعتدال وإسلام الوسطية. وكلما تمزق هذا النسيج إلا ونبتت فيه بذور الفتنة المذهبية والطائفية المقيتة التي تعصف بأمن واستقرار كثير من المجتمعات في المشرق العربي . فثقافة الكراهية تجفف منابع المواطنة وتخنق قيم الحوار والاختلاف وتغتال الولاء للوطن، بحيث تحوله إلى "دار للحرب" يجوز فيها القتل والسبي والتخريب

4 ــ الأسلمة/السلفنة/الأخونة التي تغزو المجتمع وبنيات الدولة: لم تعد خافية  عن العيان مظاهر التأسْلُم في كل مناحي المجتمع والإدارات والمؤسسات التعليمية والجامعات والمعاهد العليا بسبب إستراتيجية الأخونة/السلفنة التي تنهجها تنظيمات الإسلامي السياسي منذ سبعينيات القرن العشرين وبتواطؤ من الدولة وتشجيع منها. فظاهرة انتشار مظاهرة التدين لتشمل حتى رنات الهاتف والبرامج الدينية التي تبثها كثير من عيادات أطباء القطاع الخاص، تخفي ظاهرة نفسية وثقافية خطيرة وهي التطبيع مع التكفير، وهو مؤشر حقيقي على مدى تمكّن الأسلمة من المجتمع ومن ذهنيات المواطنين العاديين الذين لم يعودوا يختلفون في نظرتهم للمجتمع وتصورهم لأنماط السلوك في تنوعها واختلافها عن أتباع التنظيمات الإسلاموية. والأدهى أن يتحول أطباء وسائقو سيارات الأجرة أو تجار أو مهنيون إلى "قضاة" يحاكمون المواطنين ويرفضون خدمتهم /علاجهم إما بسبب لباس الإناث أو لجنس المعنيين (طبيبة رفضت الكشف عن رجل، سائق طاكسي رفض تقديم خدمة لفتاة بلباس عصري، مدرس يطرد تلميذة رفضت ارتداء الحجاب ). لقد توارت معايير: الجميل والخيّر والحسن المفيد والواجب لفائدة أحكام فقهية متشددة تميز فقط بين الحلال والحرام ولا تؤمن حتى بمنطقة "العفو" بينهما؛ أما ما يتعلق بقيم الحوار والاختلاف والاحترام فهي في حالة الانقراض.

إن ثقافة الأسلمة تخلق أجيالا تميل نحو التطرف ولها استعداد نفسي وذهني لممارسته. الأمر الذي يشكل تربة فكرية وثقافية مواتية لزراعة فقه التكفير وعقائد الغلو. وما تفعله التنظيمات الإرهابية هو أنها تجند وتستقطب الشباب حامل لهذه العقائد والميّال إلى ممارسة العنف والتطبيع معه.

من هنا يكون لزاما على الدولة/الحكومة أن تنتبه إلى مخاطر الأسلمة/السلفنة على أمن المجتمع واستقرار الوطن حتى يمكنها وضع خطط وبرامج تتصدى للتهديدات التي تستهدف الأمن الفكري والروحي للمواطنين مثلما وضعت خططا لحماية الأمن العام ضد التنظيمات الإرهابية. فالمقاربة الفكرية والاجتماعية والروحية لا تقل أهمية عن المقاربة الأمنية، بل هي الأساس لأنها تتصدى للجذور الفكرية والعقدية للتطرف والإرهاب بينما المقاربة الأمنية، على أهميتها، تتصدى للنتائج. فالإرهاب ككل داء، تقتضي مواجهته اعتماد الوقاية الناجعة عبر استهداف أسبابه وتحصين المناعة الفكرية والمادية والنفسية للمواطنين حتى لا تصطادهم شبكات التطرف وتستغل ظروفهم النفسية والاجتماعية. ولعل تواصل تفكيك الخلايا الإرهابية وشبكات الاستقطاب دليل على وجود مشاتل وبيئة تفرخ وتنتج وتحتضن المتطرفين. لا يمكن محاربة الناموس إلا بتجفيف المستنقعات.