من الحديث مع عدد من المتابعين والمهتمين الغربيين بشؤون العالم العربي والإسلامي، يستشف أن موجة جديدة من اضطرابات الربيع العربي يجري الإيحاء بقدومها إن لم يكن يجري التحضير إليها لتندلع في شكل ثورات واحتجاجات وهبات اجتماعية حسب سخونة الساحات، ودرجة نضج الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومستوى السخط الشعبي في كل منها من دون أن تستثني هذه المرة ساحات شرق أوسطية أخرى كتركيا وإيران.
وأغلب الظن أن الإيحاء أو التحضير لهذه الموجة الجديدة تجاوز البعد الاستخباراتي السري، وذلك بعد أن بدأت كتابات عديدة تبشر به متخذة في الكثير من الحالات إما طابع التهويل من تفاقم الأحوال الاجتماعية، أو شكل التحريض واستنهاض الهمم، وبث المزيد من الأمل لدى الشباب المحبط من جراء انتكاسة ثوراته واحتجاجاته الأولى سنة 2011 ، وسرعة احتوائها أو اختطافها منه.
وتستند معظم الآراء التي أمكن استيقاؤها عن الموضوع على أن العواصم الغربية الكبرى، ولا سيما واشنطن لم تهضم إطلاقا تمكن قوى إقليمية تقليدية تآكلت كثيرا أسانيد شرعيتها بتعاون مع قوى محلية متنفذة ومتحكمة من وأد الثورات والاحتجاجات، التي كانت شعبية وعفوية في منطلقاتها، وذات مطالب ترتبط بتطبيق قيم غربية محضة كالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية.
ولهذا، فإن العزم قائم على عدم ترك أنظمة التحكم والاستبداد إعادة إنتاج نفسها، وتنقيح سياساتها ؛ وذلك بالسعي إلى إعادة الاعتبار مجددا إلى الحراك الشعبي، سيمابعد أن أدركت دوائر القرار الغربي أن غالبية الشباب المحبط يحملها جزءا كبيرا من الانتكاسة التي حدثت لثورات الربيع العربي واحتجاجاته. إحباط يتم التعبير عنه بطريقتين مزعجتين معا للغرب هما :
*ارتماء المتطرفين من هذا الشباب في أحضان الجماعات المتطرفة التي تناسلت على امتداد خريطة المنطقة، وخاصة داعش، التي تقدم نموذجا عمليا لمفهوم الجهاد بإمكانه تفريغ طاقاته الكامنة ، ونموذجا تدبيريا لشؤؤون الناس بعيدا عن المؤسسات الدولتية المفلسة أو العاجزة المرتهنة للغرب وآلياته النقدية والمالية في عموم المنطقة.
*تهافت الأقل تطرفا في هذه الفئة العمرية على الهجرة غير الشرعية، وبأي ثمن، كما تثبت ذلك قوارب الموت في اتجاه الغرب نفسه بشكل بات يمثل أرقا مزمنا لدوله، خاصة وأن ذلك يتزامن مع أزمة اقتصادية حادة تنخر كيانات الدول الغربية، التي تتصاعد قوى اليمين المتطرف داخلها كرد فعل على تهاون حكوماتها في مواجهة هذه الهجرة.
ومن المعلومات التي ترشح في هذا السياق تبني دوائر القرار الغربي مجموعة خطوات تعتقد أنها كفيلة بالمساعدة على تجاوز هذه المعضلة، وإعادة الروح للحراك الشعبي :
1/ أول الخطوات بدأت بالترويج في الأوساط الشعبية الناقمة على الأوضاع في العالم العربي وبعض الدول الإسلامية، وخاصة الشباب بأن إخفاق ثورات الربيع العربي واحتجاجاته ليس قدرا محتوما ينبغي الرضوخ لمشيئته، انطلاقا من التركيز في التواصل والتبرير على أن ما حصل لحراك الربيع العربي شبيه إلى حد كبير بما وقع للثورات الاجتماعيةLes révolutions des communes في أوروبا سنة 1848.
في هذا السياق تجري على نطاق واسع محاولات ترويجية عديدة استنادا على مقارنة تعسفية إلى حد كبير بين الحدثين التاريخيين تنتهي إلى أن الانتكاسة التي أصابتهما معا ناجمة عن ثلاثة أمور بينها علاقات طردية، هي :
*غياب الرؤية السياسية الموحدة لدى جماهير الانتفاضتين معا، وعدم الاتفاق على الهدف المرجو من الحراك الشعبي المرافق لهما، حيث كانت الناس تعرف من لا تريد، ولا تعرف بالضبط ماذا تريد سوى شعارات فضفاضة غير مبلورة في برامج وسياسات.
*إن نفس الدور الذي لعبته النخب الرجعية الأوروبية بتحالف مع الكنيسة لإجهاض ثورات 1848 قات به النخب المسيطرة على السلطة في العالم العربي بالتحالف في البداية مع التيارات الإسلامية لحرف مسار الثورات والاحتجاجات عن سكته في اتجاه الحرية والديمقراطية.
*قيام القوى المتحكمة، وسدنة الوضع القائم فيما بعد بتقزيم التيارات الدينية (حالة حركة النهضة في تونس) أو لفظها إن أمكن فور انتهاء صلاحيتها (مصير الإخوان المسلمين في مصر) ؛ وذلك حسب وضعية هذه التيارات في كل ساحة من الساحات الهائجة، ومدى جرأة المتربصين بها.
2/ تتمثل الخطوة الثانية في التحدي الماثل أمام أجهزة القوى الغربية المتعاملة مع الأوضاع في العالمين العربي والإسلامي، الذي يكمن في أهمية استمالة قوى التغيير الشبابية مرة ثانية وإذكاء جذوة النضال لديها. ورغم صعوبة المهمة، يبدو أنها عازمة على ركوب قطار المحاولة مرة أخرى، وذلك لأسباب عديدة :
*إن معظم الشباب المرتمي في أحضان تنظيمات التطرف ولا سيماد داعش يتمتع بشخصية حيوية، حالمة متعطشة للمغامرة، قادر على التفكير جيدا، وراغب في إضفاء معنى ما على حياته بدلا من البقاء شارد الذهن بين أكثر من اتجاه يقود معظمها إلى اليأس والإحباط ؛ الأمر الذي يتطلب التوجه إليه بخطاب إيجابي يمكنه منافسة خطاب التنظيمات المتطرفة، وتسفيه الأحلام التي تدغدغ بها عقول هذا الشباب ومشاعره.
*تأكدت القوى الغربية من أن الأنظمة المحلية في المنطقة والنخب المتحكمة فيها غير قادرة ولا راغبة في الاجتهاد لبلورة أفكار من صلب واقع بلدانها ومن عقول أبنائها، معولة عوض ذلك وبشكل خاطئ على ما يقترحه عليها خبراء غربيون ومراكز أبحاث وتفكير أمريكية وأوروبية منطلق أبحاثها الرئيسي هو مصالح دولها.
*تبعا لما سبق لا تعير الأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي أي أهمية للمقاربات والمبادرات المحلية لخفض العنف المتدثر بالدين، واستيعاب الشباب المتعاطي له، رغم أن العديد من الأبحاث أثبتت نجاعة هذا العمل المحلي في وقف الميول إلى العنف، وخفض نسبته أكثر مما قامت به البرامج الوطنية المركزية المستوحاة معظمها من تقارير أممية أو غربية.
يكفي في هذا الصدد الاطلاع على سبيل المثال على تجربة الشبكة المتحدة لبناة السلام الشباب United Network of Young Peace Builders التي استطاعت إثناء آلاف الشباب الباكستانيين عن الالتحاق بطالبان باكستان.
*انتقال عدوى تخوف الأنظمة وعدائها لمنظمات المجتمع المدني الفعالة والجادة إلى النخبة المثقفة التي لاذ معظم المنتمين إليها بالصمت في وقت تحتاج فيه المجتمعات العربية والإسلامية إلى جهود مكثفة من التنوير لكسر تلك المنطقة الرمادية التي يوجد فيها غالبية السكان الواقعة بين الظلام والنور، وبين الخير والشر.
3/ تبدو الخطوة الثالثة عملية أكثر، وذات فعالية أكبر على أرض الواقع، لأنها تستهدف تأجيج كل الأنواع الممكنة من التناقضات الداخلية في دول المنطقة وهي كثيرة، ومتشعبة بغية توسيع هوة عدم الثقة بين مكونات المجتمع، وبينها وبين السلطة الحاكمة سعيا إلى إفشال كل محاولات ترسيخ الاستقرار بالمنطقة وتثبيته لأطول مدة ممكنة. ترتكز هذه الخطوة على مجموعة إجراءات لعل أهمها :
*إفشال كل محاولات النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في العديد من بلدان المنطقة، خاصة بعد أن سرت على نطاق واسع نغمة تدعو إلى ضرورة منح الأولوية للتطور الاقتصادي مقارنة بالتطور السياسي والديمقراطي للمجتمع انطلاقا من شعار مفاده أن لقمة العيش هي الأسبق على الحرية.
فالغرب وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بأن يصبح القدوة هو النموذج الصيني المعتمد اقتصاديا على نظام السوق تحت سيطرة كلية لمؤسسة واحدة على الحياة السياسية هي الحزب الشيوعي.
*الترويج بشكل متواتر وسريع لتقارير وأبحاث متنوعة المصادر تبث صورا قاتمة عن الأوضاع في العديد من البلدان، وتوحي بحتمية التدهور في الأحوال الاجتماعية للأغلبية الساحقة من الشعب مقابل شرذمة فساد واستبداد متمكنة ومتنفذة يتم إعلاميا تجريدها من أي هالة أو هيبة معنوية اكتسبتها عبر تسريب وثائق قد لا يعطيها مصداقية سوى صمت المعنيين بها.
ويتم التركيز بصفة خاصة في هذا السياق على المجالات الأكثر حساسية مجتمعيا كالصحة والتعليم ومستويات الفقر حيث تبدو الدول المعنية عاجزة عن رفع التحدي أمامها، مما يسهل إدراجها في خانة الدول الفاشلة.
*إطالة أمد الصراعات في الساحات الملتهبة كي تظل مستنزفة لجميع من يشترك فيها أو يقترب منها ما لم يقبلوا بالتصور الذي تقدمه الدول الغربية للحل بما يتماشى ومصالحها. لقد كشفت وثيقة إعداد ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية لسنة 2017 عن زيادة مهمة في الاعتمادات مبررها أن البنتاغون يعتبر الحروب الطويلة الأمد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خيارا استراتيجيا لن يسمح فيه لمن يصفهم بالأعداء بالانتصار.
إن خلط الأوراق على الساحة السورية وتأجيج منسوب الكراهية والحقد بين أطراف الصراع، والعقبات الكأداء التي يفاجئ بها التحالف العربي في اليمن، والمفاجآت المتلاحقة للمنغمسين في أتون اللهيب الليبي تؤكد هذه الرؤية.
*********
سألت صديقا أوروبيا عن أسباب قيام الولايات المتحدة الأمريكية بطمأنة حلفائها في أوروبا أكثر بكثير ممن يعتبرون أنفسهم حلفاءها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذين باتوا عرضة لانتقادات حادة منها، فكان رده موجزا، بسيطا وعميقا في آن واحد. قال : فتش عن الديمقراطية.
آنذاك لم يحضرني أي رد، ولكني تذكرت ما نقله هنري كيسنجر عن الرئيس هاري ترومان عندما سأله عن أي من منجزاته كرئيس يفتخر بها. قال ترومان إنه يفتخر بإلحاق هزيمة نكراء بأعداء بلاده في الحرب العالمية الثانية ( دول المحور ) ، ثم إدماجهم من جديد في الجماعة الدولية La communauté Internationale ، وشدد على أن أمريكا وحدها كانت قادرة على ذلك.
فهل تريد أمريكا ومعها الغرب لشعوب الاستثناء نفس مصير أعدائها في الحرب العالمية الثانية ؟