الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى المتوكل :الاصطفاء للإصلاح والبناء والتقدم

مصطفى المتوكل :الاصطفاء للإصلاح والبناء والتقدم مصطفى المتوكل السواحلي
اصطفى : فضل واختار .
يقولِ تعالى: "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ".سورة الحج.
فالله اصطفى و يصطفي في الحاضر والمستقبل إلى أن تقوم الساعة، والاصطفاء يهم الناس كذلك، فيختارون من مجتمعهم من يكون حاكما وحكما ومنظرا ومربيا وقدوة لهم حتى وإن لم يكن بموقع المسؤولية. إن الواقع وظروف العيش ومستويات المعرفة تتغير وتحتاج إلى تجديد وتحيين قواعد الاختيار لتتلاءم مع متطلبات المرحلة ومصالح الناس ..والاصطفاء له مستويات في الدين وفي الطبيعة وبين مختلف الكائنات الحية و بين البشر ..ففي القرآن نميز أساسا على سبيل المثال بين ..
ـ اصطفاء الله الدين الذي ارتضاه للناس قال تعالى :"إن الله اصطفى لكم الدين " سورة البقرة.
ـ واصطفاء الله الأنبياء والرسل من الناس على العالمين بناء على معايير تختلف من نبي إلى آخر.
قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ " سورة آل عمران.
فمثلا اختار الله طالوت من بنى إسرائيل ليكون ملكا عليهم وهو من فقرائهم فاعترضوا لهذا السبب فأجابهم تعالى بقوله: "إن الله اصطفاه عليكم وزاده بصطة فى العلم والجسم " سورة البقرة.وقصة سيدنا هود عليه السلام تشير إلى جانب آخر من الموضوع في علاقة بفهم الناس وتقييمهم .قال تعالى : " فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ . قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ." سورة هود.
والاصطفاء عند الناس تختلف قواعده ومرجعياته، فإن كانت عقلية ومنطقية وعلمية وموضوعية تنتج آثارها الإيجابية في الواقع اجتماعياواقتصاديا وفكريا ومدنيا وعسكريا في مختلف الطبقات و التجمعات السكانية، فيظهر المتميزون في كل الحرف والمهارات والفنون والرياضات وعوالم الإبداع والفكر والعلوم وفي السياسة والدفاع والأمن والنظام ، ليكون الإنسان المناسب في المكان المناسب، ويتحقق التقدير والتثمين الشامل لكل الطاقات بمختلف عطاءاتها بما يعود بالنفع الشامل ولمصلحة الجميع،وهناك من يضع قواعد الاصطفاء الخاصة بمرجعيته وتوجهاته والتي تقوم على التوظيف السلبي والانتهازي للمال والسياسة، وبناء العلاقات المختلفة وحتى الضرورية لرعاية المصالح والخدمات ومتطلبات الحياة الكريمة، فيكون "المختارون تعسفا وتحكما" على نقيض المطلوب ليصدق عليهم وعلى واقعهم قول الرسول الكريم (ص) : (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال : إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)..وقوله :"إنّ من أشراط الساعة أن يُرفَعَ العلمُ، ويظهر الجهلُ »..وكما ورد في الحديث : «إن من أشراط الساعة أن يُوضع الأخيارُ، ويُرفع الأشرارُ".إن لكل عمل أو سياسة ساعة الانتهاء وذلك عندما يحصل زيغ وانحراف عن الطريق السوي الذي وضعت معالمه وضوابطه الديانات السماوية و المبادي والتشريعات الإنسانية, فتضيع الأمانة , وتتضرر مصالح الناس وتنتهك حقوقهم , ويسود التناقض والتضارب ما بين المصالح الضيقة الانتفاعية والطفيلية والرغبة في التحكم من جهة، والمصالح العامة التي لايقوم العدل إلا بتحققها من جهة أخرى..إن تضييع الامانة يقابله الإخلال بالواجب وخيانة وخرق ضوابط النزاهة والشفافية والصدق وتضييع الحقوق والمكتسبات، فكل عمل لم ينجز بحسن نية ومعرفة وعلم وجهد يتسبب في هدر للزمن وتعطيل للمصالح العامة والعليا للوطن، وكل إفساد وسوء تبليغ للدين بتلبيسه بأفكار وتوجهات مذهبية ضيقة تشعل الفتن وتفسد حياة العقول يعتبر من علامات الساعة التي يكون من تداعياتها الإساءة للدين وتقديمه للناس كافة بأنه ليس دين رحمة وعدل وكرامة ..إن الاصطفاء الفعلي هو المبني على المعرفة والعدل والحق وخذمة الصالح العام ونكران الذات و القرب من قضايا الناس وتيسير الأمور لهم , والتعامل معهم على قدم المساواة دون تمييز أو انحياز أو عصبية.فالمختار المعني بالرسالات السماوية والمهام بالأرض في إطار الإستخلاف وتحمل المسؤوليات بمختلف مستوياتها حتى لبناء الأسرة بالزواج يجب أن يؤمن بالحق والعدل بقلبه وعقله , ويـنطقه بلسانه , و ينجزه بيديه , ويجسده في كل تصرفاته وأعماله وقراراته ومعاملاته , وعندما لايرى الناس منه إلا ما يزعجهم ويفسد أحوالهم فاعلم أن الخلل في منهجية الاختيار و في "المختار" ..
إن مؤسسة الأسرة تتطلب أن يكون للرجل والمرأة حرية الاختيار ليصطفي كل واحد منهما بعلم ومعرفة واقتناع شريكه لأن في ذلك مصلحة لهما ولأسرهما ولأبنائهما والمجتمع والدولة .. وكذلك شأن الوطن , فالناس مسؤولون عن حسن الاصطفاءوالاختيار في كل أمورهم الدنيوية بكل المؤسسات بدءا من المجتمع المدني إلى القوى السياسية والاجتماعية إلى الهيئات المنتخبة والمتفرع عنها و المتولدة منها بما في ذلك الحكومات ..فكلما كان هناك خلل في قواعد وضوابط الاصطفاء في اي مستوى منها إلا وتنعكس آثار ذلك سلبا في البنيان كله ..
إن الرسالات السماوية تكون وحيا لإبلاغ الأنبياء والرسل ..وتكون بعمل العلماء واجتهادهم بالكشف عن روح ومضامين ما هو مبثوث في كل نص وفي كل شيء كقواعد و قوانين الخلق والتكوين والتطور بالكون والطبيعة والمخلوقات الحية ومنهم الناس .. وكل الأنبياء والعلماء مطالبون بتبليغ الرسالات إلى الناس وتوظيفها لمصلحتهم , فالعالم الذي لم يبلغ العلوم الحقة والصحيحة ولم يعلمها للناس يكون قد ارتكب خطأ تختلف جسامته حسب الأهمية والمصلحة منه، فالرياضيات والطب والهندسة وعلوم الفضاء وعلوم البيولوجيا والفلسفة الخ ..تتكامل وتشكل فيضا من المجمل والعام ..والإشارات الواردة في الكتب السماوية وفي أحاديث الأنبياء المتأكد من صحتها تتحدث عن الاصطفاء المرتبط بالحياة , و في علاقته بالمفهوم الخاص والعام للخلق والاختيار , فكل العلماء والخبراء والمصلحون ..عبر التاريخ هم مصطفون من الناس عرف البعض بذلك أو جهله .. إن من أسباب التخلف والجهل وانتشار الفساد والظلم غياب المعايير السليمة والناجعة عند اصطفاء من يسير أو يدير مسؤولية ما أو عدة مسؤوليات , والإقصاء الممنهج، وتهميش صفوة وزبدة المجتمع من خبراء وعلماء ونوابغ ومبدعينوفي إطار التدافع الإجتماعي والسياسي , وفي علاقة بانتشار الفقر والأمية وحتى الجهل , و بتشوه مفهوم وممارسة الديموقراطية عند البعض من الناس ..تظهر على السطح مجموعات وأفراد يقدمون أنفسهم على أنهم الأفضل ويسعون للتشكيك في منظومة الإصطفاء الحقيقي والموضوعي والمنطقي الواجب اعتماده , هدفهم تضليل العامة ..فتضيع الحقائق ويتعطل دور المتميزين والنبغاء والعلماء المتنورين ليحل محلهم الرويبضة ليس في العلوم الدينية فقط بل في كل العلوم ومجالات العمل العام وحتى ببعض الأنشطة والفعاليات الشعبية, كما يتضرر التوازن داخل المجتمع وتصاب الحياة العامة بالانكسار والإحباط وتجد الدولة نفسها أمام مهام تزداد جسامتها وصعوبتها لأن محركاتها تتدافعها قوتين غير متكافئتين تعتبران "مختارتين " ومن النخب , واحدة تجر نحو الخلف والجمود والتحجر , وأخرى تدفع نحو التقدم والتطور والتحديث في الوقت الذي تتضاعف فيه حاجيات الشعب وتسير الدول المتقدمة بشكل مطرد يجعلنا دائما نقف لنسائل أنفسنا ..ما العمل ؟ وما هي الإصلاحات التي يجب أن تعتمد ؟ وما هي حدود التجديد والتغيير ؟ والحال أن الوضع أصبح يتطلب تجند الجميع للعمل الجاد , وأن يكون الاختياروالاصطفاء العادل والسليم , بإسناد الأمور في كل موقع للذي سيقدم الأفضل والأحسن للوطن ..وفي ذلك " فليتنافس المتنافسون .."