قبل عقدين من الزمان كانت الكتب هي البوابة الوحيدة لتثقيف الذات، لم يكن هناك لا إنترنت ولا فيسبوك أو يوتوب ولا هواتف نقالة. إذا أردت شحن دماغك بالمعرفة والعلم والثقافة فما عليك إلا أن تقصد أقرب الخزانات، المهجورة اليوم بفعل تعدد وسائط الاتصال وانتشار التكنولوجيا الحديثة. لقد ساهم هذا المناخ الجديد في انتشار ثقافة المعلومة والاتصال والأفكار السطحية، وتراجع الفكر المبني على الفهم العميق للظواهر والأحداث وأصولها العلمية التي تمنح القدرة على التحليل والفهم والتفكيك.
وبقدر ما خلق هذا المناخ فضاء هائلا، غير مجرى الأحداث في ميادين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتواصل، فإنه ضيق قائمة ما كان يعرف كلاسيكيا بالمثقفين الذين كانوا يعتبرون مصادر المعلومة لفهم وتحليل الأحداث.
إن الفوضى مثلا التي تعرفها بعض مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك هي نتاج لتدفق المعلومة المرتبط بالاستغلال التجاري للتكنولوجيات الحديثة، والربح من خلالها بالتدرج لخلق ثقافة يومية مستهلكة "jetable"...لذلك لا غرابة أن نجد انتشارا واسعا للأفكار الانفعالية السطحية والتحليلات العمياء، والرؤى الهدامة والعرجاء وكثرة المحللين والمحرمين والمفتين بدون أهلية علمية تؤهلهم لذلك.
لقد ساهمت وسائط التواصل الحديثة في تفكيك روابط التواصل الاجتماعي الكلاسيكية، فتجد الناس في بيوتهم الزوج والزوجة والأبناء والناس في المقاهي وفي العمل، كل مغرق وجهه في هاتفه النقال وكل له اهتماماته وانشغالاته الخاصة، شيوخ أطفال شباب نساء بل تم ابتداع برامج وتطبيقات حتى للرضع... وبغض النظر عن إيجابيات ذلك، فقد صارت هاته الوسائط مثل البلوى العامة لا يمكن العيش بدونها بدون صبيب وهاتف لائق وشارجور والبحث عن أماكن الويفي وكل المستلزمات، صار أيضا وجعا للدماغ،ومضيعة للوقت وافتقارا للنوم وملهى عن العمل، ولدى البعض مجالا لتبادل القذف والشتم والبحث عن الفضائح ونهش الأعراض، ولدى آخرين منصة حزبية للخطابة السياسية، وعند البعض فرصة لاقتناص الفرص والنصب والاحتيال على العقول الضعيفة،ولدى آخرين ملاذا لتبادل الغرام والبحث عن العلاقات السهلة التي يحظرها الفضاء العام.
إن طبيعة الوعي الحضاري العام للأمة هي التي تحدد جودة استعمال هاته الوسائط، فكلما انتشر الوعي والثقافة والأخلاق والعلاقات الإنسانية، كلما انتفع الناس مما تتيحه الوسائط في جميع مناحي الحياة، وكلما انتشر الجهل والتخلف كلما كانت انعكاساتها سلبية وتساهم في نشر التطرف والخراب وظواهر الانحلال الاجتماعي...وفي ظل تراجع الوسائل التقليدية للرقابة من هيئات سياسية ونقابية وجمعوية، شكل الفيسبوك ووسائله ذات الصلة من كاميرات وبث مباشر وغيرها، رأيا عاما ناجعا وأداة فعالة للرقابة والفضح والتوثيق الفوري والمباشر، وأيضا وسيلة للتعبئة والتواصل والإعداد النظري الافتراضي للأشكال المادية في الميادين والساحات والقاعات، فتحولت الوسائط الحديثة إلى كابوس مرعب للأنظمة المستبدة، ووسائلها المستنفذة للتعتيم والتضليل والمسخ الثقافي، ومن أجل ذلك جندت فرقها وعناصرها لمراقبة الفيسبوك ومتابعة أفكار نشطائه واهتماماتهم ومنشوراتهم،وجيشت اتباعها للدعاية لأفكارها الرسمية، وظهر شيوخ ومقدمي الفيس بل قد طال الاعتقال والمحاكمة لأفراد عبروا عن أفكار عابرة على جدرانه،فآلاف الحسابات المجهولة أو المفبركة هي فقط لمتابعة النشطاء السياسيون، وجس النبض وأحيانا للتأثير على الرأي العام مما سهل على الأجهزة الأمنية متابعة ورصد اهتمامات الأفراد والجماعات، وتحديد مواقعهم ومجالات ارتباطهم بالإنترنت وطبيعة اتصالاتهم..
إن وسائط الاتصال وعلى رأسها الفيسبوك مكنت من إعادة الاعتبار للمشاركة السياسية وإبداء الرأي والتفاعل مع الوقائع والأحداث في وقت تراجعت فيه المشاركة السياسية التي يتيحها الفضاء التقليدي المرتبط بالأحزاب ومشتقاتها، وبصندوق الاقتراع.
إن الأحداث المستمرة التي عاشها مجتمعنا العربي عامة والمغربي خاصة، ولازال إلى يومنا هذا، وما عرف بالربيع الذي قلب مجريات الأحداث وغير الأنظمة وأشعل الحروب، كانت في جزء كبير منها بسبب الثورة الرقمية ووسائط التواصل الحديثة.