شهد المغرب نوعين من الأحزاب السياسية: واحد يعتمد على مشروع مجتمعي يعتبره الأفضل لضمان التقدم والازدهار للمغاربة ويعبئ الناس حول هذا المشروع.. وهذه الأحزاب كلها خرجت من رحم الحركة الوطنية باستثناء الأحزاب ذات "المرجعية الإسلامية". الصنف الثاني من الأحزاب يرتكز على الأعيان من ذوي النفوذ القبلي أو المالي، هؤلاء الأعيان غالبا ما يستغلون بؤس الجماهير وجهلها لحشرها في حزبهم. الحزب بالنسبة لهذا النوع هو السلطة والجاه لقضاء المصالح. للأسف الشديد هذا الصراع بين النموذجين أعلاه أقضى إلى غلبة نموذج حزب الأعيان، ويرجع هذا المنحى لسببين رئيسيين: الأول هو قمع الدولة ومحاصرتها للأحزاب الوطنية لأزيد من ثلاثة عقود والثاني هو هشاشة نخبة هذه الأحزاب نفسها.
سأروي، في هذا المقال، نموذجا لأحد المسؤولين الكبار في حزب يحمل مشروعا مجتمعيا، وسأبين كيف ساهم هذا الزعيم بممارسته وتزكية حزبه له في تحول حزبه إلى حزب الأعيان.
هذا الزعيم هو المسؤول الأول عن الحزب في إحدى المدن الكبرى للمملكة، وكان الحزب يحظى بدعم النخب المحلية وجزء من جماهير المدينة نظرا لصموده ومواقفه المناهضة للظلم والفساد.
هذا التعاطف الشعبي مع الحزب أوصل زعيمنا إلى المجلس البلدي ثم إلى البرلمان. بصعوده إلى البرلمان ارتقى صاحبنا اجتماعيا وارتبط بشبكة من الأعيان، وما فتئت أن تعززت هذه الشبكة بعد انتقال الحزب من صف المعارضة إلى تسيير الشأن الحكومي. أصبح هم زعيمنا هو الحفاظ على هذا الوضع الاجتماعي الراقي بأي ثمن، خصوصا أنه ترعرع في وسط قروي مدقع (كاد الفقر أن يكون كفرا). اهتدى صاحبنا إلى أن ضمان استمرار وضعه رهين ببقائه في مركز القرار الحزبي، وبدأ يبعد كل الكفاءات الحزبية ظنا منه أنها قد تنافسه في موقعه الحزبي. في نفس الوقت أحاط به مجموعة من الفاشلين الذين يسبحون بحمده. في ظل هاته القيادة الضعيفة والمنعزلة عن جماهير الحزب تراجع بريق الحزب من محطة انتخابية تلو الأخرى إلى أن توقف رصيده الانتخابي دون العتبة.
الغريب في الأمر أن هذا الزعيم ظل على رأس الحزب رغم أن هذا الأخير تحول من حزب له رصيد جماهيري ويتوفر على فريق من المستشارين المحليين وبرلمانيين إلى حزب صغير لا يتجاوز وزنه العتبة، وبالتالي انعدمت تمثيليته المحلية والوطنية. رغم كل هذا التحول الكبير لم يحاسب أحد من المسؤولين الوطنيين هذا الزعيم عن حصيلته المفلسة!!! والأنكى أن الحزب يطالب الدولة بربط المسؤولية بالمحاسبة .
كان هذا المشهد يؤلمني، وكنت أتساءل مع نفسي وأقول: تصوروا معي لو أوكلنا إلى أحد المدربين تدريب فريق في القسم الأول الوطني لكرة القدم. هل يمكن أن يستمر هذا المدرب على رأس الفريق وينتقل به إلى الدرجة الثانية ثم الدرجة الثالثة وأخيرا يحوله إلى فريق من فرق الأحياء ولا أحد يحاسب المدرب!
أبدا لن يحصل هذا، فمكاتب الفرق تستغني على المدرب إن هو انهزم هزيمتين أو ثلاثة في نفس الموسم الرياضي، فما بالك إن تم سقوط الفريق على يد المدرب.
كنت أتساءل كيف أن مسؤولينا يحاسبون بصرامة مدرب فريق كروي ويربطون استمراره بالنتائج الإيجابية التي يحصل عليها الفريق وهي على أي لعبة ليس إلا ولا يحاسبون بنفس الصرامة المسؤولين الحزبيين الذين يشتغلون في الشأن العام أي في مصائر الناس ومستقبلهم.
قد يقول قائل إن جماهير المدينة ونخبه حاسبت هذا المسؤول بحيث أدارت وجهها للحزب. هذا صحيح، لكن صاحبنا اهتدى إلى حيلة ثانية لكي يتم انتشاله من الهوة التي سقط فيها وهي أن يلتجئ إلى أحد الأعيان الفاسدين الذين يتوفر على جمهور من البؤساء القاطنين في الدواوير المحيطة بالمدينة ويدخله للحزب ثم يبوؤه المرتبة الأولى في اللائحة ليكون هو وصيفه أملا في أن يتم انتخابه من جديد.. فبئس السياسة، وبئس المصير.