طرحت جريدة "أنفاس بريس" مجموعة من الأسئلة بخصوص تأثير اللغة على الفرنسية على الأستاذ حسن بنطسيل من جامعة "باريس ناتير"، وهو متتبع للشأن الفرنسي وكذلك للقضايا اللغوية والثقافية بهذا البلد. إذ كان اللقاء به متزامنا كذلك مع الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية باليونيسكو، والذي أشارت من خلاله مديرة الأخير إلى أن "تاريخ اللغة العربية يزخر بالشواهد التي تبين الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، بحيث كانت اللغة العربية حافزا لإنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عهد النهضة، وأتاحت اللغة العربية الحوار بين الثقافات عل طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الإفريقي".
+ باعتبارك باحث في مجال اللسانيات. كيف تتبعت الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية باليونيسكو وبفرنسا؟
++ الإحتفاء باللغة العربية في سياق مثل الذي نعيشه والذي يشبه إلى حد كبير ما أسماه هينيغتون "صراع الحضارات"، هو نوع من رد الإعتبار لهذه اللغة وللمتكلمين بها. فالسياق الخاص الذي تعرفه فرنسا منذ العمليات التي أودت بحياة أكثر من 265 فرد في باريس وفي مدينة نيس جنوب فرنسا، أصبح بعد ذلك كل ما هو عربي يخيف ويزرع نوع من الرهبة في نفوس المتلقين. المنابر الرسمية لدولة الفرنسية أو المنظمات الدولية مثل منظمة اليونيسكو كونها تستمر في تخليد هذا اليوم للاحتفاء باللغة العربية، هو نوع من الاحترام لها و لهذه الحضارة العربية.
+ بمعنى أن كتاب فرنسي مثل "أجدادنا العرب وما تدين به لغتنا اليهم" هو مستفز في مثل هذه الظروف التي تعيشها فرنسا اليوم؟
++ كتاب "أجدادنا العرب وما تدين به لغتنا إليهم" لـ"جون بيغيغو" هو كتاب بالأساس أكاديمي، ولا يدخل في إطار الكتب التي تجتذب أكبر عدد من القراء، ورغم أكاديميته فهو تلميع وتحسين صورة التاريخ والحضارة العربية، وكون الحضارة العربية ساهمت بشكل كبير في بناء الحضارة الانسانية، و الدليل على ذلك هو التلاقح الذي يوجد في علاقتها باللغات الأخرى. والتأثير الذي مارسته وهو موجود في الكتاب الذي ذكرت في سؤالك هو نفس التأثير الذي مارسته على لغات أخرى مثل اللغة الاسبانية، الإنجليزية والألمانية كلما كان هناك احتكاك مع هذه اللغة وشعوبها من تبادل نبيل، وهذا ما يعكسه هذا التواجد الكبير لمعجمها في باقي اللغات مثل الفرنسية.
+ أغلبية الفرنسيين والعرب لا يعرفون أن اللغة العربية هي اللغة الثالثة بعد الإنجليزية والايطالية في إغناء معجم اللغة الفرنسية بالكلمات الجديدة كما يقول عالم القاموس جون بغيغو. كيف ترد؟
++ هذا صحيح، فمثلا ابن ميمون وابن رشد كانا وراء ترجمة مخطوطات وكتب من الفلسفة اليونانية وهي التي وصلت إلى أوروبا. ولولا هذه الترجمة العربية ما بلغت هذه المعرفة بلدانا مثل إسبانيا فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية. وهو ما يبين لنا أن أية حضارة تتقدم بالإنفتاح والتلاقح مع الحضارات الأخرى، وليس بالإنكماش والإنغلاق على الذات. فأي زائر لإسبانيا اليوم يرى المعمار والآثار التي يدل على عظمة هذه الحضارة، والتي يمكن أن تعطي إذا توفرت لها الحرية، لأنها تحمل في طياتها معاني كبيرة للقيم الإنسانية. أما الكراهية والعنف الذي نراه اليوم لا يمكن إلصاقه بهذه الحضارة، وإنما هو نتيجة انتشار الجهل في المنطقة والأرقام القياسية للأمية. وهو ما تعكسه كل الارقام والدراسات الموجودة حاليا. ففي بلد مثل إسبانيا ينشر من الكتب سنويا أضعاف وأضعاف كل ما ينشره 22 بلد عربي مجتمعة.
+ قالت المديرة العامة لليونيسكو "اودري ازولاي" في رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية إن "العربية هي ركن من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي من إحدى اللغات الأكثر انتشارا واستخداما في العالم، إذ يتكلمها يوميا ما يزيد عن 290 مليون نسمة من سكان العالم". ما تعليقك؟
++ أضف إلى هذا القول البليغ في حق اللغة العربية للمديرة العامة لمنظمة الونيسكو "أودري أزولاي"، إن اللغة العربية هي ليست فقط ركن من أركان التنوع الثقافي للبشرية، بل هي وجه من وجوه ما يمكن أن تنتجه هذه البشرية. والمعلقات العربية هي من أهم ما تم إنجازه في مجال الشعر، فضلا عما خلفه ابن سينا في مجال الرياضيات وما قام به الخوارزمي في الفلك والجغرافيا، ودور ابن رشد في تنوير الفكر في الوقت الذي كانت تعيش أوروبا عصر الإنحطاط والظلمات. ففي الوقت الذي كانت اللغة العربية تحمل أفكار التنوير كانت أوروبا تعيش الظلمات والحروب. وقول مديرة اليونيسكو هو اعتراف ورد اعتبار من العالم لما أسدته هذه اللغة وهذه الحضارة لباقي الحضارات والثقافات العالمية.
+ بصفتك جامعي ومثقف عربي يعيش بباريس، كيف تنظر إلى مستقبل هذه اللغة وهذه الحضارة على ضوء هذا التبادل الذي تم بيننا هذا الصباح بباريس حول الاحتفاء بهذه اللغة؟
++ الحضور العربي بفرنسا ينتظره مستقبل زاهر وسيكون وسيلة لانتقال مجموعة من المفاهيم الانسانية الفرنسية التي تحمل مبادئ الإخاء والمحبة وحقوق الإنسان. فالجاليات العربية سواء بفرنسا أو باقي أوروبا من خلال تعليم أبنائها في هذه البلدان سوف تخدم نفسها وبلدانها الأصلية. وهي لن تعيش هذه القيم الإنسانية فقط، بل ستساهم في نقلها إلى البلدان الأم. وهذا ممكن إلا أنه لن يتحقق إلا من خلال المثابرة في التعليم ونقل الخبرات والتجارب التي يعيش والتي يحصل عليها من بلدان المهجر إلى بلده الأصلي وتشجيع التبادل الاقتصاد والعلمي والثقافي بين بلدان الاستقبال والبلدان الأصلية. هذا الكلام ليس قولي، وإنما أتى في حوار سابق لي بباريس مع المهدي المنجرة رحمه الله، بحيث كنت في ظروف صعبة، وفي اشتياق لبلدي ولأهلي. والأستاذ المنجرة قال لي آنذاك إن "الإنسان المغربي بصفة خاصة أينما كان يمكن أن يخدم بلده فقط من خلال التمثيل المشرف وإعطاء نظرة حقيقية عن بلده وعن ثقافته".