الجمعة 7 فبراير 2025
كتاب الرأي

عبد الحميد لبيلتة: العمل الثقافي الجمعوي، رهانات المثقف بين الأمس واليوم

عبد الحميد لبيلتة: العمل الثقافي الجمعوي، رهانات المثقف بين الأمس واليوم عبد الحميد لبيلتة

ارتبط العمل الجمعوي التطوعي في المغرب الحديث ارتباطا وثيقا بالعمل الثقافي، على اعتبار أن كل عمل اجتماعي أو تربوي له أطره المرجعية الفكرية والثقافية، حيث ساهم العديد من المثقفين التنويرين المغاربة في دعم الجمعيات الثقافية التطوعية ذات النفس النضالي الديمقراطي، وجسدوا بالفعل والقوة إشعاعا ثقافيا، يروم تنمية الوعي بالثقافة كمعرفة وكممارسات في مجالات ثقافية مختلفة. وهذا الارتباط العضوي للمثقفين بالجمعيات الثقافية نابع من كون المثقف كان يشتغل ضمن مشروع ثقافي ديمقراطي تؤطره رؤية تحديثية تقدمية للقضايا المجتمعية. الشيء الذي وضع عليه مسؤولية العمل على توسيع دائرة نشر الفكر النقدي، وتعقب مسارات الحياة العامة بالقراءة الهادئة والعميقة للواقع ضمن نسق التحولات المجتمعية أي ربط النظرية بالممارسة، كما جسد المثقف أدوارا طليعية من أجل التغيير.

وإذا رجعنا لعقود الستينات والسبعينات والثمانيات، نجد المثقفين التنويريين كانوا منخرطين في العمل الثقافي الجمعوي، ليس من باب الطرف الفكري أو كخبراء تقنيين تحت الطلب كما نجد بعضهم اليوم، بل انصهروا واصطفوا في صلب قضايا الفكر والإبداع من أجل المساهمة في تفكيك بنية التقليد والتخلف والاستبداد، باستقلالية فكرية، ونزاهة أخلاقية، وروح تطوعية عالية. كما وجد المثقفون في بنية العمل الجمعوي الثقافي التطوعي بالمغرب، آلية ناجعة من بين بنيات التأطير والتثقيف الاجتماعي. لذلك أخذت المسألة الثقافية حيزا مهما، وشكلت هما وقلقا فكريا في عملية تأطير وتكوين الأجيال الشابة من طلبة وتلاميذ. وتقديم جهود كبيرة في الفضاء العام، وترسيم تقاليد الحوار والنقاش الثقافيين. كل ذلك في إطار استنبات القيم الثقافية التحررية والتحديثية في هذه المرحلة "الثورية" من تاريخ بلدنا، بحيث مكن هذا التوجه الثقافي والقيمي في تدعيم سلوكات الافراد، ورغباتهم واتجاهاتهم للقبول والرفض والتعاطف لما تطرحه الثقافة الجديدة من  إشكاليات وانشغالات إبداعية وفكرية واجتماعية..

فالمسألة الثقافية كانت بالأمس القريب عصب عملية التأطير لدى الجمعيات الثقافية وفي بعض الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية والفصلية. إذ شهدت دور الشباب والجامعات والمؤسسات التعليمية والعديد من المدن وبعض القرى الصغيرة مدا ثقافيا، تجلى في تنظيم الندوات واللقاءات الدراسية والمعارض التشكيلية والملتقيات والأيام والأسابيع الثقافية. حيث نشطت بشكل لافت الجمعيات الثقافية الوطنية والمحلية، وجامعة الأندية السينمائية ومسرح الهواة، واتحاد كتاب المغرب....الخ من المؤسسات الثقافية. وشكلت هذه المناشط الثقافية حضورا تطوعيا ومتميزا ومنتجا للمثقفين في تخصصات متعددة، وفي مجالات إبداعية وفنية وفكرية. هكذا إذن كانت الثقافة مكونا مركزيا في الحياة العامة والجمعوية، وواجهة لترسيخ فعل ثقافي ضمن المشروع المجتمعي الجديد المناقض للمشروع التقليدي الاستبدادي.

هذا النهوض الثقافي الحامل لثقافة التغيير. وجد أمامه مقاومة شرسة من طرف الاتجاهات التقليدية المحافظة التي تلتقي موضوعيا مع التوجه الاستبدادي المهيمن، إذ بدأ مخطط ممنهج في عملية استقطاب المثقفين إلى حظيرة جمعيات ما كان يعرف بجمعيات الجبال والسهول الموالية للسلطة. وبدأ ترسيم ما يعرف بالعمل الثقافي في الصالونات والفنادق من خمسة نجوم. وبالتالي الابتعاد عن فئات واسعة من المتلقين. وقد اتسم عمل جزء من المثقفين بالعزلة عن واقع المجتمع والارتكان لغربة وتغريب قاتلين. وقد ارتمى بعض المثقفين من  ضعاف النفوس في الريع الثقافي. كما أصبحنا اليوم نشاهد أشباه المثقفين يحتلون الإعلام العمومي بتوصيفات مختلفة، ومنهم من أسس جمعيات ومراكز ومنشورات تحت الطلب للاستفادة من الريع الثقافي، وابتعاد السؤال الثقافي النقدي عن طبقات واسعة، مما أفرغ مساحة واسعة احتلتها الثقافة التقليدية المحافظة بانعكاساتها السلبية من خلال تفريخ فلول التطرف ونشر الكراهية... وفي ظل هذا الوضع المتردي للعمل الثقافي، لا يزال جزء من المثقفين يقاوم هذا المد النكوصي، ويخلخل الأسئلة الحارقة لأوضاع الثقافة، وإعطاء المعنى للثقافة وللعمل الثقافي في بعده التنويري والرمزي، ومرتبط بالجمعيات الثقافية التي ظلت وفية لأهدافها ورسالتها من أجل تنمية الوعي الثقافي في المجتمع.