يخرج بنكيران، مرة أخرى ليملأ الأجواء صخبا و ضجيجا، ولكي يوجه صُراخه "للمؤمنين" به الذين تخلوا عن حاسة الذوق والتمييز والفرز ..حتى لا أقول تخلوا عن حاسة النقد. فلم يكونوا يوما قادرين على النقد،ليس لعيب في عقولهم ،وليس لعجز جبلي في خلقتهم، ولكنهذه هي نتائج ومُخرجات المنهج الذي يتربى عليه الأتباع في كل الإيديولوجيات المغلقة. فلم يبق لهذا "الكائن السياسي" المحترق والمكشوف مستمعون قد يصدقون شيئا مما يقول ،إلا أتباع رضوا منهج "الشيخ والمريد" ليملؤوا فراغا عاطفيا ولكي يظهروا لخطيبهم أنه مازال زعيما ، رغم أن الزعامة ليست نعيقا وصراخا وسبا وشتما وانتقاما وتوجيها لاتهامات جاهزة في كل اتجاه وبدون مبرر.
هي ظاهرة طارئة على الثقافة السياسية بالمغرب. فلم يصل الخطاب السياسي هذا القاع من التنابز والإسفاف من قبل.فمهما تكن الدوافع السياسية والاختلافات في وجهات النظر بين الفرقاء والخصوم السياسيين فإنه يتعين الحفاظ على قدر من النبل والتعالي لكي يبقى للسياسة بعض المعنى.
يقول الدكتور عمر شرقاوي في إحدى تدويناته على صفحته بالفايسبوك :
(الهضرة ديالشي واحد باغي يفركت الحفلة
بنكيران لإدريس لشكر
إعرف قدر نفسك، فلا يمكن لحزب أكملوا له بمشقة فريقه يفرض علينا هيمنته أنت أيضا لا تخيفنا ببلطجتك رغم حجمك الضخم، فنحن لسنا مشاركين في لعبة السومو اليابانية.!!!
تعيار الناس بشكلهم وخلقتهم اسلوب رديء)
حين تعرف أن صاحب هذا الكلام كان ذات يوم رئيسا للحكومة المغربية، بعد تعديل الدستور سنة 2011 على إثر هبوب رياح الربيع العربي وحراك 20 فبراير، تشعر بالصدمة، وتتبين مدى ما جنته الشعبوية ورداءة الخطاب السياسي على السياسة بمعناها النبيل وعلى الزمن السياسي المغربي الذي قدر له أن يُهدر بدون تعقل ولا تؤدة.
نحن إذا أمام ظاهرة بعيدة عن السياسة قريبة من مختبرات علم النفس وتشخيص الاضطرابات السلوكية. فالخصومةُ حدَّ الفجور في القول، والنرجسية حدَّ التعالي على الواقع، وشحنُ الأتباع ضد المخالفين سياسيا ...هذه ثقافة طارئة على الحقل السياسي على الأقل حسب ما عايشتُه شخصيا منذ حكومة الحكيم عبد الرحمن اليوسفي حتى حكومة طيب الذكر عباس الفاسي. قادة سياسيون وزعماء وطنيون ربما لم يحققوا كل انتظارات أو كثيرا من انتظارات المواطن المغربي . لكنهم بالمقابل أبقوا الأمل عنده بإمكانية التغيير ، وكانوا يتسامون عن الخصومات الفجة وعن المهاترات الفارغة. كان للسياسة معنى وكان للفعل السياسي مغزى ومبنى.
أما اليوم ، وبعد خمس سنوات عجاف قضاها بن كيران على رأس الجهاز التنفيذي ، وحاول خلالها أن يُفرغ العمل السياسي من كل معانيه النبيلة ليخلق سياسيين على مقاسه وينزل بهم إلى المعارك والمهاترات الفجة كي يكون له الفوز في مجال هو يتقنه ببراعة. وهي السنوات التي عرفت الإجهاز على كل المكتسبات من صحة وتعليم وتشغيل وتقاعد ...والأسوأ من كل هذا هو حجم المديونية غير المسبوقة التي غرق فيها المغرب. بعد كل هذه الخيبات ، يُفسح له المجال من داخل حزبه كي يعود لممارسة خطاباته المضللة ،وتهجماته المفتقرة لكل توقير أو احترام تجاه الآخر.
فعلى مستوى التدبير وتسيير الشأن العام ، فإن البلاد خسرت من رصيدها الشيء الكثير . ولم يستفد من العمل السياسي إلا "الملهوطون ومن ارتضوا الريع غاية وهدفا". أما المواطن المغربي فعاش بحق كابوسا أسود ربما خفت وطأته مع إعفاء "زعيمهم" من تشكيل الحكومة الثانية بعدما عجز عجزا ظاهرا في نسج تحالفات معقولة على قاعدة من الاحترام والممكن السياسي. أظهر نواياه ونزعاته التسلطية تجاه باقي الأحزاب فكان أن ردت هذه الأحزاب بقوة وتركت "الزعيم" منبوذا.
ينتهي الزمن السياسي وتتوقف عقارب الساعة عن الدوران في حس "زعيمهم" عند هذه المحطة. فهو لم يستوعب أن رياح 20 فبراير التي مهدت له طريق رئاسة الحكومة لم تكن ، من كل الفرقاء والجهات ، توقيعا على بياض . وأن الصدف قد تصعد بمن هب ودب ولكن القرارات الحكيمة لا بد أن تغير اتجاه السفينة حين يتبين أن الاستمرار في المهاترات لا يمكنه إلا تعطيل مصالح الوطن والمواطنين. وكان إعمال العقل يقتضي تدبر القرار وليس الانتصار للنفس والجماعة والمصالح الشخصية والحسابات الضيقة.
قضايا الوطن ومصالح المواطنين هي فوق كل الاعتبارات الضيقة والمصالح "الحزبية" الآنية. والعاقل من يجعل هذه المصالح فوق أنانيتهوتوهماته .إن الاستمرار في لعب أوراق مكشوفة من طرف "زعيمهم" لإرباك الحلفاء قبل الخصوم وللتنفيس عن مكنونات نرجسية ورغبات دفينة في الانتصارات الوهمية لا يفيد في شيء.
حقا،مخيف هو هذا الإصرار على لعب دور ما،بعد احتراق كل الأوراق وبعد العجز البين في تسيير الشأن العام وبعد الفشل الذريع في الحفاظ على الحد الأدنى من أدبيات وأخلاقيات إدارة ونسج التحالفات السياسية. وقد آن لما تبقى من عقل حزبي لدى مقربيه أو من يشاركونه نفس الإطار أن يلجم الانفلاتات غير المتعقلة، الباحثة عن أمجاد متوهمة تسكن عقول المتوهمين، ويكبح جماح النفس الساعية إلى الثأر والانتصار لوساوسها.
أما العقل الوطني الجمعي فقد قال كلمته ... وكان له ما أراد حين تم وأد الشعبوية في مهدها وحين تم الإنصات لصوت العقل والمصلحة العليا للبلد. ولا يهم الآن النيل من حلفاء الأمس، ولا وضع صورة مكان صورة أخرى. فالحسابات الضيقة وتوقع لعب أدوار بطولية..كلها مجرد أوهام قد تصبح كوابيس سوداء.
فهل من متعظ ولو قليلا ..؟؟