صباح وجدي مشمس، مع نسمات ريح باردة، انطلقت بنا السيارة من وجدة في اتجاه مدينة جرادة ، أول ما استرعى انتباهي لوحة اسمنتية بجانب الطريق كتب عليها " القدس عاصمة فلسطين " ، هذا فأل جميل، تتابع السيارة قضم الكيلومترات، لمحت لوحة وادي اسلي،فتذكرت معركة اسلي التي أظهرت ضعف المخزن و أشرت على سهولة احتلال المغرب من طرف القوة الاستعمارية / فرنسا.
قبل قرية "كنفودة" توجد مدرسة جماعاتية تعطي انطباعا أوليا على حق أطفال و طفلات هذه المنطقة في التعلم و هذا مفرح جدا،بالنظر إلى قساوة الطبيعة . لم أزر جرادة منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي - لما كنت طالبا جامعيا - حيث لجأنا إلى جرادة مع بعض رفاقنا من مطاردات الاعتقال أثناء انتفاضة يناير 1984 المجيدة، لا شيء ذو بال تغير في المدينة منذ ذلك التاريخ؛ سوى بنايات فخمة لمقرات العمالة و البلدية و المجلس الإقليمي؛ تحاول أن توحي بهبة المخزن و في نفس الوقت تعطي صورة خادعة عن وضعية المدينة المهترئ .
في جولة لأحياء المدينة - دامت ساعة و نصف - يتبين التهميش و البؤس و الإقصاء في أبشع صوره و أقبح مظاهره، شباب بلا عمل، دور بسيطة و أزقة غارقة في الحفر و الأتربة تحت حراسة ذلك الجبل الأسود من مخلفات الفحم في سنوات الإنتاج . ما يثير الانتباه كثرة الكتابات على جدران المنازل " منزل للبيع " في كل مكان و هو دليل على أن العقل الجمعي للساكنة يسيطر عليه الرحيل إلى جهة أخرى ، بعد أن ضاقت الحياة بقاطني المدينة لمدة 20 سنة من إغلاق منجم الفحم، الذي شكل المورد الوحيد للمدينة و المنطقة .
جرادة مدينة عرفت بالفحم الحجري،حسب السوسيولوجي " بول باسكون" تأسست المدينة من طرف السلطات الاستعمارية/الفرنسية في العقد الثالث من القرن الماضي،و قد تم اكتشاف الفحم الحجري بها سنة 1927، و بدأ استخراجه عام 1936و بالتالي أصبحت جرادة مركزا منجميا عماليا، و قد استقبلت المدينة اليد العاملة من المناطق المجاورة و من جهات أخرى بالمغرب - سوس ، تزنيت و تارودانت ..و من الريف ، تازة .
توزعت أحياء المدينة بين أحياء راقية أوروبية و إحياء شعبية مهمشة للعمال .
بين بدأ الإنتاج ( 1936) و سنة اغلاق المنجم (1998)؛ وقعت عدة مآسي للعمال ، بالنظر إلى ظروف العمل القاسية و عدم توفر أدنى شروط السلامة البدنية للمنجميين مما أدى إلى خوض عدة إضرابات، من أجل تحسين ظروف العمل و الوضعية المادية للعمال، و قد تعرضوا لأبشع صنوف الاستغلال في العهد الاستعماري و كذلك بعد الاستقلال ؛ و تمثل ذلك في الفوارق الصارخة في الأجور بين العمال و المرؤوسين و كذلك في السكن و التعويضات .
كان أكبر و أشد إضراب سنة 1988 والذي دام 40 يوما ، استعملت في الإدارة كل أشكال الترغيب و القمع و الترهيب ، كتشغيل عمال خارج الشركة ، في محاولة لتكسير الاضراب و تكسير إرادة العمال، وقد استفادت هذه الفئة المتعاونة مع الإدارة من امتيازات هائلة .
بعد هذه المعركة ، بدأت الإدارة و الوزارة الوصية في البحث عن أي طريقة لوأد هذه التجربة العمالية الرائدة ، و وصلت في النهاية - مسلحة بعدة مبررات - إلى اغلاق المنجم سنة 1998 و معه تم اقبار أمال العمال و أسرهم في العيش الكريم .
حلقات يكتبها : الأستاذ عبد العزيز بلحسن فاعل سياسي وحقوقي