السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

د. رضوان زهرو: نظام الحكم في المغرب.. تحول في ظل الاستمرارية

د. رضوان زهرو: نظام الحكم في المغرب.. تحول في ظل الاستمرارية د. رضوان زهرو

منذ الاستقلال، تصدرت المؤسسة الملكية النظام السياسي في المغرب، عندما نجحت في الانتصار على مكونات الكتلة الوطنية، و تمكنت من القضاء على مختلف التمردات الداخلية، وقمع كل أشكال الانتفاضات الشعبية؛ فأعرب الملك محمد الخامس حينها، عن تصوره الخاص لنظام الحكم في المغرب، والذي بالنسبة إليه، يجب أن يرتكز في نفس الوقت، على أسس تقليدية حضارية وأخرى ديمقراطية غربية؛ ورغم قصر المدة التي قضاها محمد الخامس في الحكم، إلا أنه تمكن من بلورة فلسفة سياسية ودستورية ومؤسساتية، منفتحة وتجديدية؛ ففي خطاب له بمناسبة عيد العرش 18 نونبر 1955، أكد رحمه الله على أن العهد الجديد الذي يعيشه المغرب آنذاك يقتضي التجديد في العوائد والمؤسسات والحكم وأساليبه، وذلك عن طريق وضع أنظمة ديمقراطية، على أساس الانتخاب وفصل السلط، حيث أعرب رحمه الله، عن نيته في خلق ملكية دستورية، قائلا "إن هدفنا الأول هو تأسيس حكومة مغربية مسؤولة، ذات تمثيلية؛ هذه الحكومة التي تكون مهمتها خلق مؤسسات منبثقة عن انتخابات حرة، ترتكز على مبدأ فصل السلط، وفي إطار ملكية دستورية، تعترف للمغاربة على مختلف دياناتهم، بحقوق المواطن وممارسة الحريات العامة والنقابية"؛ وهو التوجه نفسه الذي سيسير فيما بعد، الملك الراحل الحسن الثاني، على نهجه و يعمل على تكريسه، مستندا في ذلك على إرث الماضي، بتقاليده وعاداته العتيقة، من جهة؛ وعلى روح العصر، من جهة أخرى، بما يقتضيه ذلك من انفتاح على الغرب، بآلياته التنظيمية، المتشبعة بالديمقراطية والحداثة.

وهكذا، ذهب الحسن الثاني يتصور الدستور، محتكرا وضعه بنفسه سنة 1962، معتبرا إياه بمثابة تجديد للبيعة المقدسة التي تجمع بين الملك والشعب؛ وقبل عرضه للاستفتاء، قام الملك الحسن الثاني بتقديمه للشعب، في خطاب 11 نونبر 1962 قائلا "لقد أنجزت شخصيا مشروع دستور المملكة المغربية، والذي سأعرضه عليك ليحظى بتصورك... هذا الدستور الذي أنجزته بيدي هو قبل كل شيء تجديد للبيعة المقدسة التي جمعت دائما بين الشعب والملك".

لقد تمكن الملك الراحل الحسن الثاني من أن يورث ابنه، نظاما ملكيا قويا ومستقرا، يمثل العمق الاستراتيجي للحكم في المغرب، مستندا في ذلك على الشرعية القانونية، المكتسبة من الشرعية التقليدية، حيث جعل من الجانب الديني، إضافة إلى المنطوق الدستوري، مرتكزا إضافيا وسندا تاريخيا لسلطاته، وذلك منذ أول خطاب له بعد اعتلائه العرش في 3 مارس 1961 قائلا "وإنني أعاهد الله وأعاهدكم على أن أضطلع بمسؤولياتي، وأؤدي واجبي طبق مبادئ الإسلام وقيمه السامية... كما أعاهد الله وأعاهدكم على أن أدافع عن حوزة التراب الوطني واستقلاله وسيادته..."؛ إنه بالفعل تكامل جوهري وعميق وفريد من نوعه؛ تكامل شكل عبر التاريخ، خصوصية الدولة المغربية، حيث تتأسس شرعية النظام السياسي على العنصر الديني، المتمثل في البيعة؛ فالمغرب يحتفظ بنظام خاص لبيعة ملوكه، وفق منهج وأسلوب متميز؛ وأهم أوجه هذا التميز هو اعتماده على العقد المكتوب؛ وتأكيدا على هذه الميزة، يقول الحسن الثاني رحمه الله "إن المغرب هو الدولة الوحيدة التي لم تكتف بالبيعة الشفوية، بل ما ثبت في تاريخ المغرب، وفي أي دولة مغربية، أنه وقعت بيعة شفوية، بل كانت دائما بيعة مكتوبة.

يرى ابن خلدون أن البيعة هي عهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعهد؛ ولهذا، فالإمام أو أمير المؤمنين يدشن فترة حكمه الفعلي بعد قبول البيعة التي يجمع بفضلها بين السلطتين الزمنية والروحية؛ فأصل البيعة إذن هو العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للإمام والوفاء بالعهد الذي التزم به.

لقد شكلت البيعة دائما وعلى مر العصور، صلب بنية النظام السياسي المغربي الذي خضع بحكم عوامل ثقافية وجغرافية ودينية ونفسية إلى منطق التحول في إطار الاستمرارية، عبر تعاقب الأسر الحاكمة؛ وهو ما شكل خصوصية الدولة الأمة؛ والتي تتمثل في تحقيق مصالح متبادلة بين الحاكم والمحكوم، بواسطة ارتباط عضوي بين القانوني والسياسي والشرعي. ورغم أن أهمية البيعة قد تقلصت بعد تركيز الحكم بيد الملك بعد الاستقلال، وأضحت أمرا عاديا، ولم تعد لها إلا قيمة رمزية، ورغم أنها لم تتم دسترتها سنة 1962، إلا أن الملك ظل دائما يذكر الشعب المغربي بأنه يمارس صلاحياته انطلاقا مما تعرضه عليه واجبات عقد البيعة تجاه شعبه.

الملك محمد السادس، ستبرز عنده مقاربته الخاصة لنظام الحكم في المغرب؛ مقاربة تمزج وفي تناغم وانسجام تامين، بين الديمقراطية والحداثة من جهة، والخصوصية والتقاليد من جهة أخرى؛ وهو ما أكده جلالته حينما قال "إنه من الممكن الجمع بين التقاليد والحداثة، بل أعتقد أن الحداثة يمكنها أن تساعد على ترسيخ نوع من التقاليد"؛ كما قال كذلك "وإنها لخير مناسبة لتأكيد الوفاء الذي تبادلناه وتجديد العهد المقدس الذي يلحم بيننا بأواصر البيعة الشرعية التي تطوق عنقك وعنقنا، متجدرة عبر ثلاثة عشر قرنا من تاريخنا الحافل المجيد، مشدودة إلى العصر الحديث برباط دستوري ديمقراطي متجدد". وفي جوابه عن سؤال حول ما إذا كان النظام المغربي سيتطور على شاكلة النظام الملكي الاسباني، لم يتردد جلالته في الإفصاح صراحة "... إلا أن المغاربة ليسوا هم الاسبان، ولن يكونوا كذلك أبدا. إن الديمقراطية على الطريقة الإسبانية صالحة لإسبانيا، إلا أن المغرب ينبغي أن يأخذ بنمط ديمقراطي ذي خصوصية مغربية"؛ فلكل بلد مساره التاريخي وخصوصياته السياسية والحضارية؛ وهو ما يكشف لنا عن وجود نظامين قانونين مختلفين؛ الأول يستمد أصوله من القانون العام الإسلامي، والثاني يجد تفسيره في تأثير الدستور الليبرالي الغربي، على مستوى التقنيات والمفاهيم العصرية، وعلى مستوى آليات الديمقراطية المعاصرة.

وهكذا، حرص الملك محمد السادس، ومنذ تولية مقاليد الحكم، على إعطاء إشارات قوية ورسائل صارمة - وقبل إجراء أي انتخاب- من أجل أن تمر جميع الاستحقاقات اللاحقة في جو من الحرية والنزاهة والشفافية والديمقراطية؛ فمثلا قبل استحقاقات 07 شتنبر 2007، جاء في خطاب العرش "ستجدني شعبي الوفي دوما في مقدمة المتصدين لكل متشكك في جدوى الانتخابات والأحزاب الوطنية، وكذا لكل الممارسات المغرضة التي تستهدف مصداقيتها؛ فما بلغناه من نضج سياسي، يقتضي نبذ المفاهيم الخاطئة العدمية والتضليلية لحرمة الاقتراع...".

وفي نفس السياق، نجد الملك في خطاب ثورة الملك والشعب، وقبل انتخابات 25 نونبر، يوجه رسالة قوية للمشككين في العمليات الانتخابية وحثهم إلى عدم التشكيك فيها قبل إجرائها، معتبرا أن هذا المنحى لا يخدم سوى أعداء الديمقراطية ونزوعات السلبية والعدمية؛ كما دعا في نفس الخطاب السلطات الحكومية والقضائية، المعنية بحسن تنظيم الانتخابات، إلى التقيد الصارم بالقانون، وتفعيل آليات تخليق العمل السياسي والبرلماني، وتوفير شروط المنافسة الانتخابية الحرة، والالتزام بالمساواة بين مختلف الأحزاب السياسية وبالحياد الايجابي للإدارة الانتخابية.

لقد عرف المغرب منذ الاستقلال، تطورا سياسيا ودستوريا، غنيا بالعبر والأحداث التي أثرت على طبيعة النظام السياسي وعلى العلاقات بين مختلف القوى السياسية؛ فقد تم إصدار ستة دساتير منذ العام 1962؛ بالإضافة إلى التعديلات التي أدخلت على دستوري 1972 و1992، حيث كانت الحياة السياسية ساخنة والعلاقات بين السلطة والمعارضة متوترة. وإذا كان دستور 1996 - الذي جاء في سياق سياسي ودستوري خاص، و سيطر عليه هاجس التناوب، الذي ثم النظر إليه آنذاك "كضرورة سياسية"،  بسبب الإحساس المبالغ فيه بحجم وقوة الخصم- قد أدى إلى انفراج سياسي وعلاقات جديدة بين مختلف القوى السياسية، فإن "الإجماع" الذي حصل حول دستور2011، قد أدى إلى تكريس المنهجية الديمقراطية وترسيخ قيم الحوار والتشاركية، من أجل تحديث وتثبيت ودمقرطة نظام الحكم؛ كان عقب الخطاب التاريخي لـ 9 مارس 2011، الذي أعلن فيه عن خارطة طريق لتعديل دستوري، أراده ملك البلاد أن يكون جذريا وعميقا، سواء من حيث منهجية الإعداد أو من حيث محتوى المقتضيات والأحكام؛ خطاب قوي، تضمن مرتكزات مهمة ومتقدمة جدا، همت مجالات واسعة، من قبيل فصل السلط واستقلال القضاء وسمو القانون وترسيخ الديمقراطية وحماية الحقوق وتوسيع مجال الحريات وتمكين المرأة و تكريس التعددية واتباع أساليب الحكم الصالح وآليات الحكامة الجيدة

 من أجل ذلك، نجد الفصل الأول من الدستور ينص على أن "نظام الحكم في المغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية؛ وبأن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ وبأن الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي؛ وبأن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة".

لقد أصبح الملك، والذي أزال الدستور الجديد، صفة القداسة عن شخصه، و حافظ في المقابل على واجب الاحترام والتوقير له، بمقتضى الفصل 46، حيث "شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام"؛ (أصبح) يتمتع بسلطات واسعة، تمكنه من ممارسة اختصاصاته في شتى المجالات التي لها ارتباط بانتظام أحوال الدولة، وضمان دوامها واستمرارها؛ وخاصة منها، تلك التي لم تسند صراحة لا للبرلمان ولا الحكومة؛ وهو ما يمكن أن يستشف بالأساس من منطوق الفصلين 41 و 42 من دستور2011، حيث "الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية..." و"الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة..."؛ وهو تقريبا نفس محتوى الفصل 19 من دستور 1962 الذي كان ينص على أن "الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة"، ونفس محتوى الفصل 19 من دستور 1996 الذي أكد على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، لكونه الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة، على أساس ألا تنتهك حرمته لقداسة شخصه".

وبهذا، يمكن القول بأن دستور2011 قد تبنى فلسفة دستورية جديدة في تناول صلاحيات المؤسسة الملكية، وذلك حينما تم التمييز بين مهامها الدينية (الفصل41) وبين مهامها الدستورية (الفصل 42) حيث خص المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، بمكانة متميزة، باعتبارها المستوى الأعلى في هرم السلطة، سواء على المستوى التنظيمي والمؤسساتي، أو على مستوى بنيانها وصلاحيتها وكيفية اشتغالها، حيث إن المؤسسة الملكية، وهي معتزة بمشروعيتها "السلالية" وبانتمائها "الديني" وببعدها "التاريخي" وبسموها الدستوري... لا تتمتع فقط بوضع فخري أو رمزي، بل تشكل مركز الثقل في سلم توزيع السلطات الدستورية، وتنهض بالفعل بمهام ومسؤوليات واسعة ومتنوعة؛ لا تنحصر فقط في الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإنما تطال أيضا المجالات ذات الأبعاد الروحية والعقائدية والإنسانية؛ وذلك على الرغم من توسيع دستور2011 من صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية.

إن المهام الدينية المخولة للملك، باعتباره أميرا للمؤمنين، والتي للإشارة، لم تلحقها أي تعديلات أو تغييرات في جميع المراجعات الدستورية التي عرفها المغرب تباعا، في سنوات 1962- 1970- 1972- 1992- 1996، تكرس ما جاء به الباب الأول من دستور2011، والذي ينص على إسلامية الدولة.

لكن في المقابل، عرف هذا الدستور تغييرات كبيرة و جوهرية، من  حيث المتن والتأويل كذلك؛ فعبارة "أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة"، كانت في الدساتير السابقة تفرض إرادتها على جميع المؤسسات، ومنها المؤسسة التشريعية؛ ولنا في نازلة انسحاب نواب المعارضة من مجلس النواب في أكتوبر من العام 1981 أثناء صراع سياسي بينها وبين المؤسسة الملكية، خير مثال على ذلك، حيث أخرج الملك الحسن الثاني سلطة إمارة المؤمنين بحمولتها الدينية والتشريعية لمواجهة ما اعتبره "أناسا ضالين مضلين"، معتبرا أنه إذا كان الملك الدستوري لا يمكنه النظر في الأمر؛ فأمير المؤمنين - وذلك بواجب السنة والكتاب- عليه أن ينظر فيه؛ (هذه العبارة) تم تأويلها فيما بعد، من خلال الممارسة السياسية، بشكل يخول لأمير المؤمنين صلاحيات ومهام وسلطات جد واسعة.

وهكذا، نجد بأن دستور2011 إنما قام في الحقيقة بإعادة إنتاج، وفي قالب جديد، لصلاحيات الملك التقليدية والعصرية، وللامتيازات الواسعة التي ظل يتمتع بها، في ممارسة الحكم؛ وذلك في إطار تحول سياسي ودستوري ومؤسساتي ملحوظ، لكن دائما داخل نسق من الثبات والاستمرارية، مضبوط ومحكم، جامع ومتجانس.

وإذا كانت المؤسسة الملكية قد اهتمت، منذ الاستقلال، بوظيفة إعادة بناء السلطة، خاصة مع المغفور له محمد الخامس، في حين ركز الملك الراحل الحسن الثاني على مأسسة النظام وبناء الدولة الوطنية، فإن الملك محمد السادس سار على نفس النهج، لكن أعطى الأولوية ومكانة الصدارة، في جل السياسات العمومية، للتنمية المستدامة؛ السياسية والاقتصادية والبشرية والثقافية والحقوقية... كما عمل على تعزيز مسار الإصلاح وتوطيد التحديث الاقتصادي وتقوية التماسك الاجتماعي وتكريس البناء الديمقراطي وتفعيل روح التضامن...