الثلاثاء 19 مارس 2024
فن وثقافة

أسامة الزكاري: التلفزيون المغربي.. سلطة للتدجين وأداة للتحكم..!!

أسامة الزكاري: التلفزيون المغربي.. سلطة للتدجين وأداة للتحكم..!! أسامة الزكاري

يشرح أسامة الزكاري،الباحث المتخصص في تاريخ الإعلام، في هذا الحوار، إشكاليات التغيير فيما يتعلق بالتلفزة المغربية، و يذكر كيف أنالمرحوم محمد العربي المساري استقالة من منصبه كوزير للإعلام داخل حكومة التناوب ، عندما اقتنع بعدم جدوى الرهان على إخضاع التلفزيون لتوجهات الحكومة:
ـ في ظل التنامي المستفز للبرامج التلفزية الهابظة في القناتين الأولى والثانية، كيف تحلل أسباب وعوامل استمرار الدولة وإصرارها على مواصلة تضبيع الشعب عن طريق الإعلام العمومي..؟!
- لا شك أن الأمر يظل مرتبطا بتوجهات مركزية لدى صانعي المشهد الإعلامي الوطني المعاصر، بهدف تكريس هيمنة مطلقة للسلط النافذة في التأثير على الرأي العام، ليس بهدف إشاعة ثقافة المواطنة والحقوق الأساسية والحريات العامة والانتقال الديمقراطي، ولكن - أساسا- من أجل تكريس ثقافة التنميط والتمييع والتدجين والاحتواء، هي ثقافة ظلت تبحث لنفسها عن آليات التجدد وعن شروط التكيف مع تحولات الواقع والمحيطين الإقليمي والدولي.
لقد أدرك المسؤولون عن الحقل الإعلامي ببلادنا، ومنذ انفجار الصراع التاريخي المرتبط بتنازع الشرعيات التاريخية والسياسية خلال مرحلة ما بعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، أن التحكم في ثقافة الصورة التلفزيونية وتطويعها وفق ما يخدم مصالح التحالفات واللوبيات المهيمنة على المشهد السياسي العام، يشكل مدخلا مؤطرا لكل جهود احتواء المطالب المشروعة في التغيير والديمقراطية وتعميم ثقافة حقوق الإنسان، مادام أن المغاربة لا يقرؤون ومادامت نسب الأمية تتجاوز نصف أفراد المجتمع، وفي ظل تبخيس ممنهج لقيم العقل والمعرفة والفن والإبداع.
باختصار ، كان التوجه يصبو نحو إعادة ترويض المواطن المغربي على القبول بثقافة التسطيح وعلى التطبيع مع فقرات تلفزيونية تكرس الميوعة نهجا والابتذال سبيلا والإسفاف أفقا.
لذلك، كان طبيعيا أن يغيب صوت المثقف وأن تتوارى آراء المفكر وأن تختنق أنفاس المبدع، كل ذلك في ظل تصاعد "مخدوم" لثقافة شعبية مفترى عليها، ولا تحمل من علاقة بالشعب إلا العناصر المهيكلة لسبل إفساد أذواق المتلقي وإدخاله في متاهات إعادة تربية ذوقه الخنوع وتخويفه من إثارة الأسئلة النقدية الحقيقية الكفيلة بتفكيك القيم وبالارتقاء بالوعي الجماعي لمغاربة المرحلة.
وعلى الرغم من أن المغاربة قد استبشروا خيرا بالقرار الحكيم الذي كانت قد اتخذته الدولة بفصلها لوزارة الداخلية عن شؤون الإعلام برحيل وزير داخلية الملك الحسن الثاني، فإن التوجه العام المؤطر لمواقف الدولة المغربية من الصورة التلفزيونية، ظلت تبحث لنفسها عن شروط تجديد أدواتها وخطاباتها واستيهاماتها المستفزة للذوق العام. فعوض أن يتحول التلفزيون إلى أداة للارتقاء بعناصر تلاقح الهوية الثقافية المغربية المركبة، نجده يدخل مستنقعات اجترار نظيمة إفساد الذوق العام.
هي مؤامرة كبرى، لا شك وأننا ندفع ثمنها باهظا من أمننا الجماعي، ومن أحلامنا المشتركة في التأصيل لتنمية ثقافية حقيقية كان بالإمكان الرهان عليها لترشيد انخراطنا في العصر ومواكبة التحول المنشود نحو الديمقراطية والحداثة والجمال والفن والفكر والنقد والإبداع.
- كيف تقرأ تحول الإعلام العمومي من أداة للرقي الاجتماعي، كما يحدث على صعيد جارتنا إسبانيا، إلى أداة للتجهيل والتضبيع..؟!
- لا مجال للمقارنة بين الحالتين، ففي إسبانيا كان التلفزيون في طليعة الأجهزة التي تحملت مسؤولية تحصين الانتقال الديمقراطي عقب وفاة الديكتاتور فرانكو سنة 1975، بعد أن اقتنع جميع الفرقاء بأهمية جعل جهاز التليفزيون في خدمة الشعب ولا شيء غير ذلك، أي في خدمة التحول الديمقراطي الجنيني، حيث أصبح فضاء يتسع لجميع الفرقاء، وحيث لا سلطة فوق سلطه، ولا ضوابط إلا لأخلاقياته، ولا حدود حمراء إلا لما يقره القانون بهذا الخصوص. فكانت النتيجة، أن أصبح التلفزيون سلطة فوق كل السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأصبح الإعلام الحر يشكل قاطرة الفعل لتفكيك إرث النظام الفرنكوي الشمولي.
أما بالمغرب، فالأمر ظل حبيس رؤى ضيقة ظلت تنظر للإعلام من زاوية الإخضاع والتطويع بعد أن تم توريطه في صراع مكشوف في معارك "كسر العظام" بين نخب التغيير من جهة، وبين القوى المحافظة الهادفة لمخزنة الصورة وفرض تفاهاتها على المتلقي، في أفق امتصاص تطلعاته وأحلامه المشروعة في النهل من مضمار الفن الرفيع والتربية على أبجديات الفكر النقدي الضامن لإنجاح كل مسارات التغيير المجتمعي المنشود.
- لماذا في رأيك لم نستطع تحرير التلفزة من هيمنة القلة التي تصر على الاستهتار بالمشاهد..!؟
- أعتقد أن للأمر خلفياته التي لا تتطلب كثير عناء للكشف عن حيثياتها. ففي ظل هيمنة ثقافة الصورة، وفي ظل تبخيس قيم العقل والذوق السامي، وتحت تأثير مسخ المرحلة، اقتنعت اللوبيات المتنفذة في المشهد الإعلامي أن مجال التغيير لا يمكن أن يمس قلعة التلفزيون مهما كلف ذلك من ثمن.
دليل ذلك، عجز الحكومات المتتالية التي حملت حلم التغيير منذ عهد حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وإلى عهد الحكومة الحالية التي يقودها الأستاذ سعد الدين العثماني، مرورا بحكومة إدريس جطو وحكومة الأستاذ عباس الفاسي، وحكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران، ظلت سلطة القرار بالنسبة لقنوات القطب العمومي للتلفزيون والإذاعة خارج سلطة الجهاز التنفيذي، بل وعاكست توجهاته في الكثير من المواقف. ولعل في الطريقة التي كانت تتعامل بها مسؤولة سامية بالقناة الثانية مع عبد الإله بنكيران عندما كان وزيرا أول خير دليل على ما نقول، أضف إلى ذلك الموقف الذي كان قد اتخذه المرحوم محمد العربي المساري عندما قرر الاستقالة من منصبه كوزير للإعلام داخل حكومة التناوب الأولى، بعد أن اقتنع بعدم جدوى الرهان على إخضاع التلفزيون لتوجهات الحكومة ولاختياراتها المستندة إلى نتائج صناديق الاقتراع. هي أمثلة من واقع بئيس يجعل التلفزيون المغربي يعيش خارج العصر، ويتحول إلى عش مهجور، بعد أن هجره المشاهد المغربي نحو فضاءات أرحب أضحى يتيحها طوفان القنوات التلفزيونية العالمية وعوالم شبكات التواصل الحديثة، حيث تغيب سلطة الرقيب ويجد المتلقي ضالته في عالم بديل يحترم ذوقه ويسمو بحسه ويستجيب لانتظاراته المشروعة في المعلومة وفي التثقيف وفي المعرفة وفي اكتساب الوعي بشروط التحول واستيعاب اللحظة.