السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد امباركي: الحراك الاجتماعي في المغرب ونهاية منطق التسوية السياسية من فوق

محمد امباركي: الحراك الاجتماعي في المغرب ونهاية منطق التسوية السياسية من فوق محمد امباركي

إن تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية واتساع خريطة الاحتقان الاجتماعي وتكريس الإجابة القمعية كخيار سياسي ثابت في مواجهة الاحتجاجات، كلها معطيات تؤكد بالملموس أن الدولة تعاني عجزا بنيويا ليس في إيجاد بدائل اقتصادية وتنموية لإخراج مناطق متعددة من تهميش كاد يحولها إلى مناطق منكوبة (سيدي إفني، بوعرفة، الريف، زاكورة، جرادة...)، بل في بلورة الحدود الدنيا على أرض الواقع لحلول اجتماعية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الأساسية وكرامة العيش.. وبالتالي لا يكفي الإقرار بفشل "النموذج التنموي" للتغطية على هذه الحقيقة لأن عدم قدرة أية دولة في حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية يحولها بالضرورة إلى دولة بوليسية تعوض فشل المخططات والبرامج والمبادرات التنموية باستراتيجية أمنية خالصة قائمة على القمع والتخويف وتجريم الاحتجاج ضدا على التشريعات والقوانين التي لم يضعها غير تلك الدولة نفسها... هنا يكمن مأزق "الديمقراطية" السائدة من حيث أنها ديمقراطية غير مبنية على التوزيع العادل للثروة والسلطة بما يمكن من خلق مغرب يسير بسرعة واحدة وليس بسرعتين، سرعة السلحفاة بالنسبة للطريق المؤدية الى كرامة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية التي تظل حلما بعيد المنال لأوسع الفئات الاجتماعية المسحوقة، في مقابل سرعة القطار الفائق السرعة (TGV)  بالنسبة لوتيرة النهب ومراكمة الامتيازات والغنى والثروة المادية والرمزية لأقلية طبقية مهيمنة على السلطة الاقتصادية والسياسية.

لكن المعضلة هنا لا تكمن فقط في أزمة النظام السياسي والاقتصادي، بل أيضا في أزمة البديل السياسي والاجتماعي المؤهل لترجمة الأجوبة المناسبة إزاء تداعيات ونتائج وضحايا توجهات النظام اللاشعبية، أي في القوى السياسية والاجتماعية القادرة على دفع أزمة النظام إلى مداها الأقصى بما يؤدي إلى الصياغة الموضوعية والواعية لمقاومة اجتماعية منظمة تجعل من الخيار السياسي الأمني جوابا مأزوما أمام فعل احتجاجي مسنود سياسيا واجتماعيا...

إن التجربة التاريخية على الأقل تثبت أن النظام السياسي نجح في قمع كل الانتفاضات والاحتجاجات الجماهيرية، إما في مهدها أو بعد فترة انتظار وترقب ومراهنة على خيارات أخرى، كما هي حالة حراك الريف (الحوار، التخوين، المسجد، الوساطة،...).

للأسف رغم التضحيات الجسام للقوى الديمقراطية واليسارية في محاولة فرض مكتسبات حقيقية من داخل حراكات اجتماعية وسياسية كحركة 20 فبراير، يتكمن النظام السياسي في كل مرة وحين من إجهاض عوامل الصمود والاستمرارية من خلال القمع والتحييد السياسي والاجتماعي للحركة النقابية وإغراق جزء من قوى الصف الوطني والديمقراطي في منطق التوافقات والتسويات السياسية من الأعلى... من هنا يجب في اعتقادي أن نستوعب حقيقين ونتعلم منهما الدروس :

الحقيقة الأولى هي أن منطق التوافق والتسويات الذي طبع الحقل السياسي في مراحل متعددة، أي ما شخصه الشهيد المهدي بن بركة بأنصاف الحلول لم ينته إلا الى "ديمقراطية" منقوصة ومحروسة بعناية من خلال تمييع الحقل السياسي وتأثيثه بنخب "فرجوية" ودعم قوى سياسية رجعية وخلق أدوات حزبية وجمعوية مخزنية وتعميق و تغذية واقع اللامبالاة والعزوف والربط المنهجي والمرئي بين السياسة والمصلحة أي جعل الممارسة السياسية مجالا للانتهازية والوصولية وتحقيق المصلحة الفردية...

الحقيقة الثانية هي أن الحقل الاجتماعي الذي تميزه هوة طبقية ساحقة وتعاني معظم فئاته من التفقير والتهميش و البطالة و الإقصاء في ظل منطق سياسي توافقي بدون مردودية اجتماعية تستفيد منها تلك الفئات الواسعة وليس نخب محدودة قد تخضع للترغيب والإرشاء، يلجأ هذا الحقل إلى الاحتجاج والرفض والتمرد، أي جوابا على منطق التسوية والتوافق يلجأ الى منطق الانتفاضة والحراك الذي ينتج قياداته وبرامجه ودفاتره المطلبية في ظل حذر شديد من الفاعل السياسي برمته دولة وأحزابا ونقابات، وبالتالي هنا يجد خطاب "الدكاكين السياسية" مشروعيته، أي الخطاب المضاد للأحزاب السياسية والإطارات النقابية والجمعوية ووضعها في سلة واحدة ولو أن هذا الخطاب يعتمد نوعا من التعميم القاسي وغير الموضوعي...

في الواقع، فقد الحقل الاجتماعي العديد من مقومات المواجهة والممانعة في ظل تدبير الصمود ليس إلا - طبعا لهذا الصمود أهمية كبيرة حتى لا يتم السقوط في منطق التبخيس والتسفيه، وبالتالي اليأس ثم الإحباط الفردي والجماعي-، بمعنى أن التعبير السياسي والاجتماعي والثقافي المؤهل لحمل مشعل المقاومة السياسية والاجتماعية قد فقد العديد من الجبهات الصراعية التي تعتبر من صميم هويته الفكرية والبرنامجية والتنظيمية. وهكذا توارت الحركة النقابية الى الخلف وانتقلت من تأطير الاحتجاج الاجتماعي دعما لزمن سياسي غير مهادن إلى نوع من الانغلاقية المسيجة بجدار بيروقراطي سميك يغطي في الواقع ضعفا ملحوظا في انتزاع الحد الأدنى من المكاسب المادية والمعنوية أو في مواجهة مخططات وإجراءات لا شعبية تم تمريرها (إصلاح التقاعد، المقاصة، العمل التعاقدي، الخوصصة المستمرة للقطاعات الاجتماعية الحيوية في مجال الصحة و التعليم الذي أصبح الحديث عن مجانيتهما ضربا من الخيال...) وإجراءات أخرى في طريق التصريف (مشروع القانون المنظم للإضراب...)، حركة طلابية تتخبط في أزمة ذاتية عميقة منذ المؤتمر 17 لأوطم، حركة جمعوية انخرطت بشكل غير مشروط في تنمية بدون ديمقراطية، حركة نسائية ظلت مدينية ونخبوية غير قادرة على الوصول الى نساء ورجال الدواوير والمداشر القروية، حركة حقوقية تجتر أعطابا ذاتية على مستوى الرؤية وآليات الاشتغال وموضوعية من خلال الحصار المخزني والعوائق السوسيوثقافية التي يغذيها الفكر المحافظ السائد..

عموما إن الهوة تتسع بين الحقل الاجتماعي والحقل السياسي على الأقل منذ نهاية التسعينات، بين حقل يعرف تحولات اقتصادية وديمغرافية وسوسيوثقافية وقيمية متسارعة يوازيها تصاعد الاحتجاجات الجماهيرية ضد الفوارق الاجتماعية والمجالية المتفاقمة من أصغر الدواوير والمداشر والقرى إلى أكبر المدن والمراكز الحضرية الكبرى التي تشهد قفزات ديمغرافية مهمة بتركيبة شبابية ونسائية متنامية، وتعرف في ذات الوقت ترديا مستمرا للخدمات الاجتماعية الأساسية (هيمنة المهن الهشة المرتبطة بالاقتصاد غير المهيكل، البطالة بما فيها بطالة حاملي الشواهد والسواعد، أزمة السكن واتساع دور الصفيح والسكن الاجتماعي غير اللائق، أزمة المدرسة العمومية والقطع الرسمي مع المجانية، خوصصة المنظومة الصحية وزحف المصحات الخاصة، تنامي ظواهر الانحراف الاجتماعي ومشاتل العنف الفردي والجماعي والبيئة الحاضنة اجتماعيا ورمزيا للتعصب الديني والهوياتي والإرهاب...إلخ)، في مقابل تراجع التأطير السياسي للقوى الديمقراطية والحداثية وسيطرة القوى المحافظة والمعادية للتحرر والديمقراطية، ولعل من أبرز مظاهر هذا التراجع الحضور المحتشم لقوى اليسار الديمقراطي في الاحتجاجات والحراكات المحلية بشكل أصبح يتشكل وعي عام لدى أوساط اليسار باعتبار هذا الأخير يعاني أزمة مركبة في قراءة وفهم تحولات الواقع الاجتماعي المحلي والعالمي، خاصة في العلاقة بانهيار المعسكر الاشتراكي وهيمنة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي ألغت كل الحدود أمام الٍرأسمال العالمي، وعملت على إضعاف المقاومات المحلية من خلال سياسات التفقير والبلترة الاجتماعية ودعم أنظمة الاستبداد والفساد وحركات "الإسلام السياسي" لإجهاض الديناميات الثورية في العديد من أقطار العالم العربي التي عرفت ما سمي ب "الربيع العربي" الذي عزز من أطروحة أن قوى اليسار تتجه نحو فقدان حقيقتها الاجتماعية.. وبالتالي الدخول في متاهات نظرية وسياسية حول فهم طبيعة المرحلة ومتطلباتها ومسألة التحالفات الأمر الذي يفسر انتصار جزء من اليسار للتحالف التكتيكي مع القوى "الدينية"، وجزء آخر لدعم التدخل الخارجي في بلدان "الربيع العربي" بدعوى مواجهة بطش وتقتيل الأنظمة المحلية كحالات العراق وسوريا وليبيا...

لكن هذه الهشاشة والتراجع اللذين يميزان الحقل الاجتماعي لا ينبغي أن يخفيا الطاقات الكامنة في ذاته لمقاومة أساليب التفقير والإقصاء الاجتماعي ومصادرة الحق في المشاركة السياسية، من حيث أن الحراك الاجتماعي هو شكل من أشكال التطلع الى العيش بكرامة وإلى مشاركة سياسية حقيقية بأدوات مستقلة وناجعة، أي مؤسسات سياسية حقيقية تقوم فعلا على مبدأ تقاسم السلطة والثروة في بعديهما المحلي والوطني.. وآنذاك فقط يمكن الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة. من هنا لا يمكننا أن نقتنع بفكرة أن الحراكات الاجتماعية تعبر عن فشل ذريع للحاجة الى القيادة السياسية كوعي منظم وفكر وممارسة جماعيتين مرتبطتين أشط الارتباط بتحولات الواقع العنيد وملتحمتين أشد الالتحام بتعبيرات الهامش أو القاع الاجتماعي.

لا شك أن قوى اليسار الديمقراطي في بلادنا قاومت كثيرا وباستمرار للحفاظ على وجودها المستقل وتدبير صمودها في ظل القمع والحصار والإلغاء والاجتثاث والتفجير واجترار العديد من عوامل الكبح والإعاقة، خاصة مع دخول جزء الحقل السياسي المضاد و"يسار" الأمس في توافقات وتعاقدات فوقية وغير مشروطة مع النظام السياسي لم تنتج غير مشهد سياسي واجتماعي "فرجوي" تقوده قوى سياسية و"دينية" هي في خدمة المشروع المخزني بشعارات "ديمقراطية"، و"حداثية" هي من صميم إعادة إنتاج سيطرة النظام اقتصاديا وسياسيا.

إن تفكيك الحلقة المفقودة بين حقل اجتماعي مهدور بفعل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والقيمية، لكنه ينتج في نفس الوقت مقاوماته واحتجاجاته وحراكاته، وحقل سياسي بارد غير قادر على التحرر من منطق التسوية السياسية والاجتماعية المعاقة، تستوجب من قوى اليسار الديمقراطي السعي الجاد الى استعادة حقيقة اليسار الاجتماعية من قلب الفهم العلمي والتأطير العملي للحركة الاجتماعية، التي هي قيد التبلور الكمي والنوعي، قطاعيا، مجاليا، زمنيا، وسوسيولوجيا وعلى مستوى أدوات وشبكات التواصل والتأطير والتنظيم من داخل الحراكات الاجتماعية الممتدة ضد التهميش والإقصاء، هنا وهناك في الدوار، الحي، المدشر، القرية والمدينة، مما يستدعي تطوير وتجديد أساليب الحضور والتفكير والتأطير والاشتغال، ثم العمل على إعادة الاعتبار لقيم الحوار الفكري والسياسي الهادئ والمنتج بين مكوناته بدء من تثمين كل مسارات توحيد وتجميع قواه في أفق تطويرها النوعي، كجزء من عملية تاريخية وفكرية ضرورية لتغيير ميزان القوى وتحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي ومجتمع عادل ومتحرر وديمقراطي، وذلك بروح نقدية بناءة ورؤية استشرافية للأهمية الاستراتيجية لوحدة اليسار الديمقراطي المناضل، بدلا من الاستقواء والاستقواء المضاد الذي لا يقود في نهاية المطاف إلا الى السقوط في عقلية "الهدف لا شيء والحركة كل شيء".. وبالتالي الارتهان الى نزعة تجريبية قاتلة ونزوع تنظيمي ضيق ينتصر لتقديس الزعيم والتنظيم المغلق واحتلال المواقع والواجهات في المنظمات الجماهيرية ووقفات أو مسيرات الاحتجاج الجماهيري، كل ذلك على حساب الرؤية النسبية لجدلية الذات والواقع الموضوعي والعقل النقدي المبدع وفلسفة الهيمنة الفكرية والثقافية، كما نحت مفاصلها الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي "أنطونيو غرامشي".