من أكثر الأوهام رسوخا في المخيال الثقافي العربي، وهم أن الشباب قد أدار ظهره للثقافة، وأنه أسير عوالم سطحية، يلهو في فضاءات افتراضية فارغة، غير معني بالإبداع أو الفكر أو الأدب. لكن الحقيقة التي تتجلى لمن يغامر بالاقتراب منهم، هي أن هذا الجيل ليس عازفا عن الثقافة، بل يبحث عنها في مواطن جديدة، بمفاتيح عصره ولغته الخاصة، في انتظار من يملك الشجاعة ليلاقيه حيث يقف.
المأساة الحقيقية ليست في عزوف الشباب، بل في غرور بعض المثقفين الذين يشكون ندرة الجمهور، وكأن الثقافة حق لهم على الناس، لا هدية يهبونها لهم. يلوذ هؤلاء بـ "أبراجهم العاجية"، يحدقون من علٍ في الشارع الثقافي، ثم يتساءلون بمرارة: "لماذا لا يأتون إلينا؟" في حين أن الطريق إلى قلوب الشباب لا تختصر في منصة أو كتاب، بل في فضاءات حية تسمح لهم بأن يكونوا شركاء لا متفرجين. وتجربة ملتقيات جمعية الشعلة لليافعين والشباب برهان حي على ذلك.
فما إن تفتح أمامهم أبواب التعبير الحر، وتمنحهم منصة لتجريب صوتهم الإبداعي، حتى يفيضوا بالشعر والرسم والمسرح والموسيقى. في تلك اللحظات، تدرك أن العطش الثقافي لم يمت، بل أُهمل. وأن الموهبة لا تختفي، بل تنتظر من يراها. لكن الشرط الأساسي لهذا اللقاء هو أن تكون الفضاءات منسجمة مع إيقاع العصر.
فما إن تفتح أمامهم أبواب التعبير الحر، وتمنحهم منصة لتجريب صوتهم الإبداعي، حتى يفيضوا بالشعر والرسم والمسرح والموسيقى. في تلك اللحظات، تدرك أن العطش الثقافي لم يمت، بل أُهمل. وأن الموهبة لا تختفي، بل تنتظر من يراها. لكن الشرط الأساسي لهذا اللقاء هو أن تكون الفضاءات منسجمة مع إيقاع العصر.
لا يكفي أن نعيد إنتاج قوالب الماضي، ولا أن نحاول فرض ذائقة جامدة، بل علينا أن نصغي إلى تنوع الأذواق، وأن نحتفي بتعدد تيمات الإبداع كما تتعدد ألوان الهوية الثقافية المغربية. فالثقافة الحقيقية لا تخاف الاختلاف، بل تتغذى منه.
إنّ أخطر ما يهدد هذا المشهد هو العزلة المزدوجة: عزلة المبدع المنغلق على ذاته، وعزلة الشاب المحروم من مؤسسات حاضنة. وحين تغيب هذه المؤسسات، يضيع الجسر الذي يربط الضفتين. يصبح المثقف يتحدث عن "جمهور متخيل" والشباب يتحدث عن "ثقافة غائبة". وفي الفراغ بينهما، تنمو أنماط استهلاكية هجينة، تستبدل الحوار الثقافي بالضجيج اللحظي.
الشباب اليوم ليس صفحة بيضاء تنتظر ما يُكتب عليها، بل هو نصّ مكتمل الفصول، لكنه بحاجة إلى قارئ صبور. لديه وعيه الخاص، وطرائق قراءته للعالم، وقد وُلد في زمن التحولات الاجتماعية العاصفة التي جعلته يختبر العالم بشكل مختلف. إنّ مطالبته بأن يعيش تجربة ثقافية كما عاشها جيل الأمس، هو إنكار لحقه في صياغة تجربته على مقاسه.
لذلك، فإن الرهان ليس في إلقاء المحاضرات حول أهمية الثقافة، بل في بناء مساحات تفاعلية تعيد وصل ما انقطع، وتحول الفعل الثقافي من خطاب أحادي إلى حوار حي ...عندها، لن يكون المثقف "معلما" يتحدث من أعلى، ولا الشاب "تلميذا" ينتظر التعليمات، بل شريكين يلتقيان في أرض مشتركة.
إننا لا نفتقر إلى شباب مبدع، بل نفتقر إلى مؤسسات تحتضنه ولا نفتقر إلى مثقفين مبدعين بل نفتقر إلى مثقفين ينزلون إلى الساحات. وما لم ندرك هذه الحقيقة، سيظل كل طرف يتحدث عن الآخر وكأنه غريب عنه، بينما الحقيقة أن كليهما يقف على ضفتين متقابلتين، ينتظر من يمد الجسر.
