الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

ادريس لكريني : القدس والسلام

ادريس لكريني : القدس والسلام إدريس لكريني


 

ضمن قراراته المستفزّة والمفتقدة للحسّ الدبلوماسي، أعلن الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» في السادس من شهر ديسمبر للعام 2017 نقل سفارة بلاده من «تل أبيب» إلى القدس. يبدو أن «ترامب» قد اختار اللحظة المناسبة لإصدار هذا القرار الصعّب والخطير الذي تردّد في اتخاذه كل الرؤساء الأمريكيين السابقين منذ 1995 في أعقاب موافقة الكونغرس على قانون يرتبط بهذا الأمر، فالوضع الفلسطيني الداخلي يعاني من الشرخ والصراع على سلطة موهومة بين مختلف الفرقاء، بما فتح المجال واسعا أمام سلطات الاحتلال لتكثيف سياسة الاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على الفلسطينيين، والتنكّر للاتفاقات المبرمة وللقرارات الدولية ذات الصلة..

فيما تشهد الأوضاع العربية تردّيا على عدد من الواجهات، يعكسها تدهور النظام الإقليمي العربي وتزايد الصراعات والنزاعات الداخلية والبينية، وتباين المواقف إزاء عدد من القضايا المصيرية، وتنامي التدخلات الإقليمية والدولية في المنطقة بصورة غير مسبوقة.. بما انعكس بالسلب على العمل المشترك.. وأسهم بشكل واضح في تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ضمن أولويات السياسات الإقليمية والدولية وضمن اهتمامات الرأي العام العالمي.

في الوقت الذي اعتبر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي أن قبول الفلسطينيين بالقرار سيعجّل بتحقيق السلام، خلّف القرار موجة عارمة من الغضب الشعبي في مناطق مختلفة من العالم، بالنظر لخطورة هذه الخطوة غير المحسوبة، والتي تفتح مستقبل المنطقة على كل الاحتمالات.. كما أفرز ردود فعل رسمية مندّدة ورافضة، على الصعيدين الإقليمي والدولي.

بل لقي القرار معارضة قويّة داخل بعض الأوساط في الإدارة الأمريكية نفسها، لما يمكن أن يثيره من تداعيات كبرى على المصالح الأمريكية في مناطق مختلفة من العالم، وجرّ المنطقة إلى مزيد من الاحتقان والعنف.. بل هناك من ذهب إلى اعتبار الخطوة صورة للإدارة بالأزمة القائمة على اختلاق أزمات خارجية، وتحويل أنظار الرأي العام الأمريكي عن قضاياه ومشاكله الحقيقة نحو أخرى مفتعلة، بعد تزايد الاستياء من سياسات الرئيس المختلفة، وتنامي حدّة التشكيك في نزاهة الانتخابات التي حملته إلى البيت الأبيض..

وفي الوقت الذي حاول فيه الرئيس “ترامب” ومقرّبيه، الترويج بأن “القانون” تأخّر اعتماده كثيرا، وبكونه لن يمسّ بالدور الأمريكي المفترض في مسار “عملية السلام”، منبّها لمردوده المنتظر على مسلسل التفاوض بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي وبكونه سيعطي دفعة وقوّة أكبر للدور الأمريكي في طرح مبادرات مستقبلية صارمة تدعم حلّا نهائيا للصراع، وتأكيده على السعي لتيسير التوصل إلى اتفاق يدعم السلام الدائم بين الطرفين في إطار حلّ الدولتين.. فقد اعتبره الكثيرون بمثابة تزكية للجرائم والانتهاكات الجسيمة التي يقترفها الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وضوء أخضر منح للكيان الإسرائيلي للاستمرار في تجاوزاته وخروقاته مستقبلا، بما يعنيه ذلك من افتقاد للدور الأمريكي ك»راع للسلام» لأي أساس أو مصداقية..

تحتلّ القدس مكانة روحية وازنة ومتميّزة باعتبارها حاضنة للديانات السماوية الثلاث، وضمن الصراع العربي- الإسرائيلي، وبالنظر لقدسيتها كملتقى لتعايش الحضارات والثقافات المختلفة، ويأتي القرار الأمريكي الأخير ليشوّش على الدعوات التي ما فتئ يطلقها الفلسطينيون وعدد من الدول الداعمة لحقوقهم المشروعة، بجعل القدس الشرقية عاصمة لدولتهم المستقلّة.

لا شك أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس هو قرار خطير بكل المقاييس، يقتضي تحويل الأزمة التي فجرها الأمر، إلى فرصة لحشد الجهود وللمرافعة الناجعة، وإعادة البريق إلى القضية الفلسطينية ووضعها في صلب النقاشات والأولويات الدولية باعتبارها قضية عادلة، بعد سنوات من المراهنة على مفاوضات معتلّة وفاشلة وعلى طرف أمريكي متواطئ..

حقيقة أن السلطة الفلسطينية تجد نفسها أمام وضع صعب، يقتضي اتخاذ قرارات حاسمة بمنطق الربح والخسارة في بعدهما الاستراتيجي، خصوصا وأن الرعاية الأمريكية لم تعد مقبولة بعد القرار، ما يفرض البحث عن خيارات أنجع ووساطات أكثر مصداقية رغم الضغوطات المحتملة التي ستتعرض لها في هذا الخصوص..

ويتطلب كسب هذا الرهان أكثر من مجرد الاقتصار على الإدانة والمطالبة بالتراجع عن القرار، إلى تجاوز حالة التشظّي الحاصلة داخل الصفّين العربي والفلسطيني وبلورة برنامج وطني موحّد، والمطالبة بالحقوق الفلسطينية المشروعة على مستوى الحقّ في العودة، وتحرير الأراضي المحتلة وببناء دولة مستقلة.
عن مجلة "درع الوطن"