الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى المنوزي: لا خيار ثالث دون ثورة فكرية ثالثة

مصطفى المنوزي: لا خيار ثالث دون ثورة فكرية ثالثة مصطفى المنوزي

لقد تم إنهاك الأحزاب الجادة، وأخرى تقادمت مشاريعها المجتمعية بشيخوخة نخبها وحامليها، وثالثة لا تنطق إلا عن هوى السلطة العمومية، والعهد الجديد الذي انطلق بنفس المفهوم الجديد للسلطة لم يواكب وعوده بالتنفيذ لخلل في تفعيل المفهوم الجديد للعدل، والانقلاب على شرعية التناوب حال دون استيعاب أهمية الإصلاح وجبر الأضرار التي تسبب فيها العهد البائد، وأعاق كل محاولات تمثل جدوى طي صفحة الماضي بسلوك تدابير وضمانات عدم التكرار كمعامل مكسب للشرعية الحقوقية التي يفترض أنها ستميز النظام السياسي الفتي عن مدعي تبني الشرعية الدينية والاجتماعية، ليصير الخلل في عدم تأهيل النخبة وتجديد دمائها و أنفاسها التي أعياها الزمن السياسي البطيء النجاعة والفعالية والمردودية. وليس التيه الحاصل سوى نزلة برد عابرة تحولت مع التراكم إلى مرض عضال ينخر الدولة والمجتمع معا، وصار معه الحراك السياسي والاجتماعي يمارس بعقلية صراع الديكة. ولو تمعنا جميعا لوجدنا أن الخاسر الأكبر هو الوطن الذي أمعن الخارج وعملائه من اللوبيات المصالحية في تشويه مصداقيته وإعدام كرامته والنيل من سيادته. فهل صحيح أن للبيت المغربي رب يحميه؟

فلنتمعن جيدا المشهد السياسي، فالحزب الذي أنيط به مهمة امتصاص الغضب الفبرايري ونقمة المجتمع المتراكمة، تجاوز حدود الدور، ليس باستعمال المرتجلات، كما يحصل على الركح  المسرحي، ولكن بالتخطيط الجيد والاستباقي..  فحزبيوه القياديون يحكمون من خارج  الحكومة ، باسم الدولة المتماهية مع الدين، وباستعمال قاعدة الإله الروماني جانوس (janus) التهكم المتماهي مع السخرية الحادة، وكذا التجهم والعنف اللفظي الذي تفرضه مقتضيات سلطة رجال الدين.. فالحقوق والحريات لن تتأتى إلا على يدهم «الطاهرة».. ولكن الأنكى أن الفكر التقدمي المفترض فيه الاشتغال على هذه الحالة التي يبدو أنها إرهاصات لتكرار تجارب سابقة، كما جرى في حكومة التناوب، وقبلها في حكومة عبد الله ابراهيم، لا يحاول تجديد التحليل وبالتخلي عن مسلمة «ذكاء» النظام المنتج لفوائض المكر والتسلط والتحكم بحكم طبيعته «المخزنية» المتوارثة.. لذلك نلاحظ انبثاق نزعة سياسوية تختزل السياسة في أهمية الانصياع لمنطق «الخيار الثالث» قياسا على منظومة «العالم الثالث»، والتي أظهر الزمان أنها مجرد أكذوبة لتنظيم التنافس وعملية الاستقطاب/ التقاطب، ليس إلا. من هنا لابد من الوعي أن الخيار المزعوم مفخخ مادام قطبا الصراع المزعوم، يكمن بين وجهين لعملة واحدة، فكلا الطرفين أصولي حتى النخاع، وبالتالي فأحلاهما مر ومضر، مما يستدعي خوض الصراع  اجتماعيا  وثقافيا، وعوض الانضمام إلى قطب ما.. هكذا، ينبغي فرض الإلحاق والاستقطاب.

فهل تتوفر أحزابنا على نخبة تجدد الفكر الذي ينبغي أن يقود السياسة؟ وعلى مستوى الممارسة السياسية، هل تم استنفاذ كل الامكانيات القانونية والدستورية المتاحة للتقييم والمحاسبة والتقويم؟ وكم من الأحزاب الديموقراطية تؤمن بالنضال من داخل المؤسسات أو من داخل الشرعية القائمة؟ وحتى تلك التي تمارس السياسة بقناع حقوقي، كم منها يعتقد بأهمية مسار العدالة الانتقالية الذي سجل اعتراف النظام السياسي بأخطائه ومسؤولياته تجاه فظاعات الماضي الأسود؟

لقد أتيحت فرصة الحراك الفبرايري لممارسة خيار ثالث حقيقي، مقدماته فكرية، ودينامياته الوسيطة تشريعية ومؤسساتية، من شأنها هيكلة الحلم وتحريره من الطوباوية المبالغ فيها. لقد اختار العهد الجديد المفهوم الجديد للسلطة، ولم تبادر الأحزاب السياسية على تمثل هذا المطلب، وذلك بتأطيره بالمفهوم الجديد للعدل.. فالدولة طبقية والصراعات ستظل اجتماعية بأفق ديموقراطي واضح. وهنا لابد من التأكيد على أن ما يسمى بيساريي اليوم، ما زالوا يتصرفون وكأنهم طلبة وشباب. والحال أن المواقع تغيرت والمصالح تغيرت بالضرورة. وبحكم هذه المستجدات فالأدوار تغيرت. وبغض النظر عن ضرورة استحضار انهيار قيم المنظومة الاشتراكية، بعد سقوط جدار برلين، فإنه حان الوقت لإعادة النظر في أهمية تحصين الليبيرالية من التوحش الذي يطوقها، وضرورة رد الاعتبار لمفهوم الوطنية الذي لا يمكن اختزاله في مجرد المقاومة والاحتجاج، خاصة وأن أكبر معرقل للتنمية هو  التسلط ، الذي سببه تعايش أنماط الإنتاج، حيث يهيمن الفكر التقليداني المنتج للاستبداد، والذي يحتكر السلطة بواسطة تحالف طبقي، شكله رأسمالي عقاري ورأسمالي زراعي، لكن في جوهره فلول إقطاع، منطلقه الريع وهدفه  الربح. فألم يحن وقت نهوض الطبقات الوسطى في زمن ما أحوجنا فيه لرد الاعتبار لليبيرالية الوطنية.. نعم الليبيرالية الصريحة، عوض التخفي وراء المنظومة والمقاربة الحقوقية، أو قناع النهضة والصحوة؟ فليست المواطنة مجردة عن الخيار الليبيرالي، مادام الخيار الثالث سيكون قدريا وشرطا للشقاء التكتيكي من أجل البقاء الاستراتيجي بنفحة مصيرية ووجودية.. وهذا من شأنه أن يشجع عملية الاستقطاب والتقاطب الموضوعي، دون السقوط في أحضان هذه الجهة أو تلك، خاصة وأنه من مصلحة الرأسماليين المتوسطين والصغار، الذين يعتمدون مفهوم المقاولة المواطنة ويتمثلون المسؤولية الاجتماعية،  مناهضة التوحش والتبعية والاحتكار المعولم، مع الإشارة إلى أن النظام السياسي يبحث عن مخارج، ولكن فوبيا التحديث  تترادف لديه بمعنى التمويت.