السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

فيصل دراج: القدس.. مكان مقدس وعالم من الرموز

فيصل دراج: القدس.. مكان مقدس وعالم من الرموز فيصل دراج

تسكن المفارقة أقدار القدس الفاجعة، فهي مدينة الله التي وقع عليها قهر واضطهاد، وأقدار الفلسطينيين، الذين يقدسون مدينتهم، ولا يستطيعون زيارتها.

والمدينة مقدسة، لأنها مدينة الأنبياء التي تعترف بحق المؤمنين في ممارسة ما يؤمنون به، وبالمساواة ضرورة بين البشر. والمدينة، في دلالتها الدينية، كما أقرها عمر بن الخطاب، مدينة التعايش والتنوع، تنفتح على ماض لا حدود له، وعلى مستقبل قوامه التآلف الإنساني. ولأنها تعترف بالتعددية الدينية والثقافية، تصبح مدينة أخرى حين تحتكرها الإرادة الصهيونية، تغدو قدساً غريبة، غير التي عرفها العرب والمسلمون، وتغاير تلك التي دافع عنها الفلسطينيون، ولا يزالون، باندفاع لا اقتصاد فيه.

صاغت القدس الوجدان الفلسطيني، أمسلماً كان أم مسيحياً، وساهم العرب والمسلمون في صوغ ملامحها، ولم يهجسوا بربطها بدين وحيد، مساوين بين الأديان السماوية، وتاركين لليهود الفسحة التي تلائمهم. كان لها مكانها الرحب في كتب التاريخ وعالم القصائد، قبل أن تحظى بمكان مرموق في الكتابة الروائية، العربية والفلسطينية في آن. ولعل أولوية المقدس على جغرافية المكان هو ما وزّعها على موروث حاشد بالأطياف، وعلى فضاء مقدس ثابت، يتكئ على الخير والجمال، ولا يعرف شيئاً عن التعصّب والكراهية.

- جبرا والقدس:

أقنعت القدس جبرا إبراهيم جبرا، الذي عرفته المدينة شاباً ـولد عام 1920- وتعلّق بها كهلاً، شيخاً، بأن يصوغ صورتها مما احتشدت به ذاكرته وثقافته، فاشتقها من المعادن الكريمة، فهي من فضة وذهب وعسجد وزمرّد، حمراء التربة ملفعة بالأسرار، كما جاء في روايته "صيادون في شارع ضيّق"، وعيّنها "أجمل مدينة في الدنيا"، في روايته "السفينة"، شبانها من ورود وبناتها من شذى. وما أن وصل إلى بطله المقدسي الميلاد والمنشأ "وليد مسعود"، حتى ملأ به الفضاء، ونشره على الأرض والسماء، كما لو كان ترجمة إنسانية لمدينة لا تشبه غيرها. بدت المدينة، التي تتصادى في فضائها أصوات الأنبياء، منتصرة بذاتها، ومنصورة بإرادة الله، التي وزّعت عليها رموزاً مقدسة متعددة.

ومع أن جبرا آمن بقدس تنصرها مقدساتها، فإن الفلسطينية - الأردنية ليلى الأطرش، قرأت في روايتها "ترانيم الغواية"، الهوان الذي ألحقه الاحتلال بالمدينة، وتأملت زمناً فلسطينياً مضى، خلّف وراءه شظايا، اختصرت في عجوز ترابط في بيت قديم، كانت فيه أرواح فلسطينية غادرت، ومرّ عليه الجيش الإسرائيلي غير مرة. انطوى عمل ليلى، المتميّز بنية ومنظوراً، على بشر يلوذون بالله ويسألونه عن أقدار مدينته، وعلى فلسطينيين يذهبون إلى معابدهم، ويتصدّون للاحتلال. ساءلت "ترانيم الغواية" الزمن الدنيوي، الذي يبدل ويغيّر، وانتهت إلى حزن يخالطه الأمل.

ارتكن حسن حميد، الذي نشأ في المنفى ولم يرَ المدينة، إلى الثقافة الشعبية الفلسطينية، التي ترى النور في الظلمة الحالكة، ورسم قدساً من ضياء ونعمة وفصل بين مقدس، يحايث المدينة القديمة، ودنس عارض جاء به أعداؤها. أنهى روايته "مدينة الله" بخير يغالب الشر ويغلبه، وبقدس طاهرة راجعة إلى أصحابها.

القدس، في الرواية الفلسطينية، كما في القصائد، هي ذاكرة المغلوبين الذين يأملون بالنصر، ومرآة ثقافة تحيل على عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي وقبة الصخرة، التي فيها أشياء من "ليلة القدر"، وهوية عربية وإسلامية قديمة. والقدس كتاب رحب مختلط الصور والرغبات والأطياف، يعبّر عن إرادة البقاء، وعن أرواح عايشت في أزمنة مختلفة، أبواب المدينة، التي استشهد عبد القادر الحسيني وهو يدافع عنها في ربيع 1948.

- مدينة الله:

تظل القدس قدساً إذا بقيت كما كانت، موئلاً للأديان والثقافات المختلفة. يدخلها الجميع ويخرجون بلا قيود. هكذا شاء الله والتاريخ، مدينة للسلام والمسالمة، مدينة بين المدن وفوقها، لأنها مدينة الله، الذي يساوي بين مخلوقاته. وهي عربية – إسلامية، فتحها الخليفة الثاني عمر القائل: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. بيد أن هذا المنظور محاصر اليوم بأحوال الضعف والقوة، التي تقنع الغطرسة الصهيونية بتحويل "مدينة الله" إلى ملكية خاصة، تخص ديناً واحداً، وتشرف عليها قوة تختصر الوجود في دبابات ومدافع وغطرسة كاذبة. ولذا فإن الفلسطينيين اليوم، كما الأمس، لا يدافعون عن دين تجسّد في مدينة، ولا عن عروبة قديمة هانت، إنما يدافعون عن الحق في مواجهة الاحتلال، وعن الأنبياء جميعاً، الذين لم يجد لهم نتنياهو "مكاناً تحت الشمس"، واكتفى بدولته المنتصرة اليوم.

في القدس كما يعيها الوجدان الفلسطيني العربي، هوية وذاكرة وثقافة وتاريخ يسأل ويُساءل وكيان منقسم فادح الاغتراب، لا يستعيد ما يقدّسه ولا يقبل بالتخلي عنه. ولهذا فإنه على الفلسطينيين والعرب أن يرثوا أنفسهم حين يقبلون برثاء القدس، وأن يعطوا "القدس المتهوّدة" اسماً آخر، فـ"يهوديتها المفترضة" تمنعها عن أن تكون "مدينة الله"، أو أن عليهم، إن ارتضوا بمعادلات المتخيّل الروائي، أن يعثروا على قدس أخرى، داخل فلسطين أو خارجها، حرة متحررة تحقق الاعتراف بين البشر، وترضي إرادة الله الرافضة للشر والهوان.

وقد يسأل العقل وهو يرى إلى فلسطينيين يتمسكون بالمدينة وبرمزيتها القديمة المتوالدة: ما حدود المسرّة والشقاء في الانتساب إلى إرث مقدّس؟ وكيف يعبّر التذكّر المقاتل عن عجز واغتراب وهوية؟ وهل يستطيع الفلسطيني، الذي يستشهد يومياً من أجل مدينته الموروثة أن يقول ما قاله اليهود يوماً: العام القادم في القدس!!؟". وقد تغدو الأسئلة الصعبة أكثر صعوبة، حين يدرك الفلسطيني أن المدينة تخص غيره من العرب، وأن لها حقاً على غير العرب، ما دامت من مقدّسات المسلمين جميعاً. وقد يقع هذا الفلسطيني على مواساة حزينة، حين يرى المدينة حاضرة في "الوجدان الأدبي العربي"، الذي يحتفي بذاكرة المدينة، ويعتذر عن "ذواكر" أخرى، تعتصم بالأسف والاحتجاج والبلاغة.

كتب الجزائري واسيني الأعرج نصاً رحباً، واسع الثقافة والتأمل، عنوانه "سوناتا لأشباح القدس"، مصرّحاً بحزن شفيف يسأل المدينة عن "حي المغاربة" الذي لجأ إليه، ذات مرة مغاربة تدثّروا بدفء مقدس. دخل النص إلى القدس من باب الجمال، إذ في المدينة ما يأسر الروح، ومن بوابة الموت، التي خرج منها منفيون طواهم تراب المنفى. ولعل الأسى الشفيف، الذي يصرّح بما كان وانقضى هو ما أملى على واسيني أن يقرأ روح المدينة قبل ظاهرها، وأن يرسمها باللحن واللون والشذى والأنين، وأن يعطف مقدسيين منفيين على تاريخ مدينة حمراء التربة، كما قال جبرا ذات مرة.

- المثقف والحق:

جعل العراقي علي بدر في روايته "مصابيح أورشليم" من إدوارد سعيد مجازاً روائياً، وهو الذي ولد في القدس وزارها قبل أن يرحل. واجه بدر الرواية الصهيونية المنتصرة برواية مغايرة مقموعة، ترفع صوتها، جاهرة بالحقيقة، إن عثرت على حق الكلام. استلهم العراقي شيئاً من مأثور سعيد الذي قال: "على المثقف أن يواجه السلطة بالحق"، "وأن القدس مدينة الثقافات المتحاورة"، لا مدينة قامعة يحكمها كلام وحيد.

كان في القدس، قديماً، ما يوحّد العرب، قبل أن يأتي دهر يرهق الذاكرة ويربك العرب وأقدار المدينة.

من الطريف الذي لا مسرّة فيه أن يقترب صوت المدينة، أحياناً، من الصمت، وأن تصبح كلمة - عادة، وأن لا ينتبه إليها الضمير العربي إلا إذا شبّ بها الحريق، كما هو حاصل اليوم، حيث المظاهرات والاحتجاجات العربية، وذلك الفلسطيني، الصابر المصابر، يواجه "قنابل الغاز" والرصاص المطاطي والرصاص الحي والدبابات والمجنزرات.

يدافع الفلسطيني - العربي عن المدينة لأنها منه، وتاريخه من تاريخها، وحقوقها من حقوقه، بعيداً عن صهيوني يغتصب الحق ويطلق النار على المدافعين عنه، وبعيداً أكثر عن رئيس أميركي يتصرّف بمكان لا يعرفه، وبحقوق واضحة قديمة يعالجها بقانون الغاب، الذي لا يعترف بالمقدسات.

كان اللبناني الراحل رئيف خوري يقول: العين قد تقاوم المخرز، وغسان كنفاني يقول: يستطيع الإنسان الذي فاته اختيار ميلاده أن يختار موته، وكان بينهما من يقول: إن قطرة الماء قد تفجّر الحجر، إذ كانت متواترة في سقوطها عليه.

ربما يكون في الأقوال الثلاثة ما يفصح عن إرادة عربية حبيسة، وما يعالن بقتال فلسطيني من أجل الحق والقدس عمره أكثر من مائة عام.

- فيصل دراج، كاتب وباحث فلسطيني 

(المصدر: "ضفة ثالثة")