السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد بن الطاهر: ظروف عمال مناجم جرادة التي لا تؤجل قهر اليوم إلى الغد

محمد بن الطاهر: ظروف عمال مناجم جرادة التي لا تؤجل قهر اليوم إلى الغد محمد بن الطاهر

"ما الذي يعنيه هذا التحول في الطبيعة؟ الهضبة ترفعها تلال سوداء بقمم مسننة بشكل غريب، على سطح بعضها بدأت خضرة تظهر كما انسحاب الرجال.. في كل مكان بنايات غير مفهومة بأشكال هندسية خيالية ومنازل آدمية صغيرة متشابهة من الآجور القاتم (..) لم يعد هناك شيء متشابه. العلاقات بين الناس، أرواحهم، حياتهم، المشهد. حتى ما كان يبدو أبديا تغير". من رواية "الأسبوع المقدس" للكاتب لـ أراغون (1958).

منذ إغلاق منجمها، أصبحت مدينة جرادة في شمال شرق المغرب تسير إلى الهاوية. سكانها يحفرون بأيديهم الجبل لينتزعوا منه بعض قطع الفحم... هؤلاء العمال المنجميين المقهورين الذين يأخذون الفتات من تجار الفحم، وقد استقى الصحفيون شهاداتهم.

في هذه المناجم السرية ينزل آلاف العمال حتى عمق 90 مترا تحت الأرض مقامرين بحياتهم من أجل نبش بعض أكياس الفحم.

ظروف العمل قاسية، عمليات الحفر داخل الآبار تتم بالمعاول وبطرق تقليدية، وتثبت الأنفاق بقطع الخشب التي يتم جلبها من الغابة المجاورة. هذه المنشآت البدائية معرضة للانهيار في أية لحظة وتدفن تحت التراب العمال النازلين إلى قعر الحفرة...

حياة العمال داخل هذه الأنفاق رهينة لبعض جذوع الأشجار التي يستعملونها لتثبيت التربة وتأمين الممرات.

هم قرابة ألف عامل سري يحفرون داخل أنفاق المنجم بحثا عن الأنتراسيت (نوع من الفحم الحجري الغني بالكربون). يصادف أن يستخرجوا الفحم بالوصول إلى أعماق كبيرة وينجحوا في الحصول على منتوج جيد. لكن يحصل أيضا أن يفقدوا أرواحهم في حالة حصول انهيار للتربة أو تسرب للغاز تحت الأرض أو نقص في الأوكسجين.

تحصل عدة وفيات كل سنة في هذه المناجم السرية والأمراض الرئوية والصدرية لا تعد ولا تحصى. البعض يصف هؤلاء العمال بالمغامرين وآخرون يعتبرونهم أبطالا يخاطرون بأرواحهم يوميا لكسب قوت عائلاتهم في منطقة حطمت كل الأرقام القياسية من حيث البطالة على الصعيد الوطني (24 في المائة).

أما هم فيعتبرون أنفسهم فقط مجرد أناس يكسبون خبزهم الأسود بالجهد وعرق الجبين. هم واعون بالمخاطر التي تتربص بهم، لكن ليست أمامهم بدائل، وبالتالي يفضلون عيش فقرهم بكرامة.

المشهد في محيط هذه "المنازل" الفحمية يتشابه، عشرات الغرابيل (جمع غربال) تحاصر مكانا يبدو منفلتا من الزمن.

هم أناس اختلطوا مع الفحم إلى درجة أن غباره الأسود لا يظهر منهم سوى العينين والأسنان. هم يأملون في الحصول على الصدفة الرابحة لأنهم يظنون أن الحوض المنجمي لجرادة لم يبح بعد بكل أسراره.

عمال السطح مهمتهم هي ضمان السير الجيد للآليات الميكانيكية وإخراج الفحم من الآبار وعزل الأحجار عن الفحم وملء الأكياس التي تباع لتجار الجملة.

بعض أعيان المنطقة الميسورين وجدوا في هذه الآبار السرية وسيلة لربح مال كثير. هؤلاء الذين يسمونهم في جرادة "البارونات" حصلوا على "تراخيص للتنقيب واستغلال وتسويق الفحم"، وأصبحوا الوسطاء الذين لا يمكن تجاوزهم بالنسبة لعمال المناجم الباحثين عن بيع ما أنتجت سواعدهم.

يقول العمال المنجميون بما أن هؤلاء الوسطاء لهم الوسائل لجمع وتخزين آلاف الأكياس من الفحم وحسب هواهم "يشترون منا كيسا بوزن 70 كيلوغرام من الفحم بثمن 70 درهما ويعيدون بيعه ثلاثة أضعاف، بل يحصل أنهم يخفضون الثمن إلى 20 درهما للكيس عندما يكون الفحم غبارا خالصا".

من جانبهم يدافع أحد تجار الفحم عن أنفسهم من المبالغة في الأرباح التي يجنونها بالقول "لدينا مصاريف أخرى يجب أخذها في الإعتبار: النقل، العمال الذين يقومون بالفرز والتحميل في الأكياس...".

ومهما كانت زاوية النظر، الكل يعرف الوضع، يعرفون المخاطر ويقبلون بها في غياب بديل أفضل. وحالة السيد حماد أحسن تجسيد، هذا الأربعيني أب لثلاثة أطفال يلخص مساره بهذه الكلمات "غادرت المدرسة وكنت في السنة السادسة ابتدائي، والذي وجد نفسه عاطلا بعد إغلاق مفاحم المغرب. كنت مجبرا على التصرف لتلبية حاجياتي. وبما أنه لا آفاق عمل في جرادة، كنت مجبرا على حفر بئري الخاص. اليوم أتمكن من توفير 200 درهما تقريبا في اليوم وأعرف أنني أغامر بحياتي كل يوم في عمق هذه الحفرة. لو وجدت عملا بـ 100 درهم في اليوم سأترك بدون تردد هذه المهنة".

أمل يستمد جذوره من الماضي الزاهر للمدينة. جرادة وشقيقتها "حسي بلال كانتا جنة المنجميين منذ بداية استغلال المنجم سنة 1936 حتى إغلاقها في يوليوز 2000. كانت شركة "مفاحم المغرب- جرادة" توفر لعمالها أجورا محترمة.

ورغم كون مناجم الأنتراسيت القديمة (نوع من الفحم الضعيف الذي يحتوي على أقل من 10 % من المواد المتبخرة) القريبة مؤمنة بشكل جيد، قررت الدولة إغلاقها سنة 2001، والنتيجة 7000 عامل في المنطقة أصبحوا بدون عمل لأن "المنجم" اعتبر غير مربح بما يكفي.

تم تعويض العمال، لكن ذلك لم يكن كافيا للعيش في هذه المنطقة التي لا توفر فرصا للعمل. وبالتالي تحول المنجميون السابقون واحدا تلو الآخر إلى الفحم. ولا بأس إن كان 4/5 عمال يعانون من داء السيليكوز (مرض التصون الرئوي).

وشيئا فشيئا تحول كل السكان نحو هذه المناجم. وكل يوم يتم حفر آبار جديدة في محيط المدينة، ولم تتحرك لا مندوبية المياه والغابات التي تمتلك هذه الأراضي ولا وزارة الطاقة والمعادن المسئولة عن القطاع.