الجمعة 19 إبريل 2024
منبر أنفاس

أمل مسعود: الأطفال لا يشيخون...

أمل مسعود: الأطفال لا يشيخون... أمل مسعود

كل صباح، قبل أن يرتاد إسماعيل مقر عمله في البلدية، كان يجلس في مقهى على الشارع، يكرر طلبه المعتاد. يقدم له النادل فنجان القهوة مصحوبا بقارورة ماء صغيرة. يشرب قهوته ويتصفح جرائده اليومية المعتادة. قبالة الشارع توجد قطعة أرضية خالية مليئة بالحشائش والربيع المتوحش. لم تكن مخصصة كمساحة خضراء، فقط كانت تنتظر دورها لتتحول إلى عمارة أسمنتية. ربما كانت تنتظر أن يربح صاحبها ورقة اليناصيب ليتمكن من تجهيزها، أو ربما أن يتخلى عنها مقابل المال لمقاول ثري. بيد أنها لم تكن تنتظر مصيرها المحتوم بصمت وسلبية. فهي استطاعت أن تخلق لنفسها هوية وروحا. وهكذا كانت تدب بالحياة. فهي لم تنبت فقط الحشائش وبعض الورود البرية، ولم تجعل من نفسها فقط موطنا لبعض الحشرات كالجراد والفراش والنمل، ولكنها استطاعت كذلك أن تزرع وهج الحياة في أرواح جافة.

فكثيرا ما كان إسماعيل، وهو يشرب قهوته ومنهمك في قراءة أخبار بلا معنى عن أشخاص لا يعرفهم وأماكن لم يزرها ووقائع لم يصادفها، يسرح ببصره ناحية القطعة البرية، فتجتاحه رعشة طفيفة وحزن وحنين غير مفهومين.

ففي كل صباح، كان يعبر فوج من الأطفال الصغار الشارع ليذهبوا إلى مدرستهم. فكانوا يتوقفون قليلا في الساحة، فيصنعون لوحة حياة مبتهجة مليئة بالنشاط والحماسة. فبعضهم كان يطارد الجراد.. وآخرون يصطادون الفراشات.. وآخرون يرسمون القلوب بمداد أحمر في الحجر المتناثر على الأرض، ويكتبون بالطباشير أسماء أحبة الفصل بشقاوة  "سعاد وعلي"، "أحمد وليلى"، "عثمان وسارة"، فيحاول كل من ظهر اسمه مكتوبا على الحجر أن يمسحه بتحد وإصرار، وكأن الحجر سيفضح حبهم البريء، فيتدافعون ليسقطوا بعضهم في الحشائش، ومن تم يتبعوهم في السقطة الحرة وهم يضحكون ويصرخون ويقهقون بانفعال.. وبعد أن يتعبوا يكملوا طريقهم نحو المدرسة غير عابئين بملابسهم التي اتسخت ولا بشعرهم الذي تشعث.

الأطفال يتسخون، يركضون، يتدافعون، يضحكون، يغامرون، يتعبون، يحبون ويمضون... ولهذا هم لا يشيخون.

وربما هذا ما يزعج إسماعيل. هل يشعر بأنه بدأ فعلا يشيخ؟ هو بالكاد أكمل الخمسين. ولكنه يبدو كهلا. فعضلاته متصلبة ويابسة. ولا يبتسم إلا نادرا. كما أنه تعود أن يتصرف بجدية ورتابة مستفزتين. فهو لم يتخلى عن ربطة العنق منذ أصبح موظفا في البلدية، أي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة. فتلك كانت طريقته ليظهر للجيران وللعالمين بأنه أضحى موظفا حكوميا مهما. ومع الوقت أصبح يمشي بدون حيوية لأنه افتقد إلى الحماسة في كل ما يفعل. فهو اعتقد أنه فطن إلى  قواعد المثالية في الوظيفة العمومية في زمن البروقراطية، أي الانخراط في  لعبة جدية الرتابة، بمعنى التظاهر بالجدية في العمل بدون أن يبرح أي  ملف مكانه، وأن تعطي الانطباع بأنك مهم بدون أن تكون نافعا.

ولكنه اليوم، يدرك بأنه أخطأ عندما قبل الارتشاء. عندما قبل أن يتخلى عن ذاته مقابل الامتيازات. وها هو يدفع حياته ثمن خطيئته. ها قد شاخت روحه، وتعب جسده وتبلدت أحاسيسه بدون أن يعش حقا... فماذا لو لم يتخل عن الطفل العنيد المشاكس فيه؟ ماذا لو ظل يقاوم ويتدافع ويتسخ ويلعب ويسقط وينهض ويحب ويغامر؟ ماذا لو لم يتصرف بجبن حيال ذاته؟ ماذا لو اختار الحياة بدل الرتابة والجمود؟