خرج محمد العبادي الأمين العام لجماعة العدل والإحسان المحظورة بتصريح مثير للجدل على أحد المواقع التابعة للجماعة يعيد فيه الدعوة إلى إقامة "الخلافة " معتبرا بأن الخلافة واجب ديني شرعي كما أعطى للجهاد مفهوما مرتبطا بالخلافة التي يجوز قطع رؤوس من يعترض عليها (...)، "أنفاس بريس" اتصلت بمولاي علي الريسوني، عالم ومؤرخ ورئيس جمعية الدعوة الإسلامية بشفشاون، فوافانا بقراءته التالية في الموضوع تحت عنوان: "إحياء فكرة الخلافة الإسلامية لا محل لها من الإعراب":
"حثنا نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، على العض بالنواجذ على سنته الشريفة وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، ومن هنا جاء مصطلح الخلافة الإسلامية، فامتد طيلة حوالي ثلاثين سنة من ولاية سيدنا أبي بكر الصديق الخليفة الأول إلى نهاية سيدنا علي كرم الله وجهه مرورا بالخليفتين سيدنا عمر وسيدنا عثمان رضي الله عنهم أجمعين، واختلف العلماء هل تضاف إليهم مدة قصيرة لسيدنا الحسن سبط الرسول عليه السلام، كما اختلفوا هل يضاف إليهم سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
وبعد فترة الخلافة المشار إليها والتي هي أزهى عصور الحكم الإسلامي بعد مرحلة النبوة على صاحبها الصلوات والزكيات والطيبات، اقتنع علماء الأمصار وفقهاء الأمة بالأشكال الجديدة التي تطور إليها نظام الحكم في الإسلام، فجاءت الأسرة الأموية فأذعنوا لها في المشرق واحدا بعد واحد، ثم تولى بنو العباس بن عبد المطلب عم حبيبنا المصطفى عليه السلام، فأذعنت الأمة وعلى رأسها العلماء والفقهاء من الأئمة المجتهدين فمن دونهم، ثم توالت الأسر والدول في المشرق والمغرب من الأدارسة ببلادنا وعائلات أخرى تقلدت مسؤولية الإمارة في أقطار إسلامية متعددة، إلى فترة العثمانيين الذين تسموا بالسلاطين واستمر الأمور دواليك إلى زماننا هذا دون أن يتطاول أحد بادعائه انتهاج مسلك يضاهي الخلافة الراشدة في حدود علمنا.
وما ذلك إلا لأن الفقه الإسلامي في جانبه العملي والتطبيقي، فقه يجانب الخيال والأماني والآمال وأطياف الخيال، ويجنح فقهنا العظيم إلى الواقعية وملامسة الميدان وملاءمة الظروف من الأزمنة والأمكنة والبيئات الإنسانية ومراعاة التطور الحضاري للإنسان، بحيث عن الإمام مالك رضي الله عنه ما يشير إلى أنه كان إذا سئل أسئلة فيها الغرائبية والعجائبية والاحتمالات البعيدة، كان يستفسر هل النازلة؟ فإن قالوا لم تقع بعد كان يقول دعوها حتى تقع فنُسأل فنُجيب.
ففقهنا حي في ريعان شبابه دائما وأبدا، لا يبتعد عن دنيا الناس ولا يحلق في فضاءات الأماني البعيدة عن متناول اليد، خاصة إذا كانت مستحيلة التحقق بحسب موازين القوة والسنن الكونية في الاجتماع والتمدن والطبيعة البشرية، فكانت شريعتنا في جانب المعاملات: في التجارة والاقتصاد والسياسة والحرب والمعاملات الدولية والعلاقات مع الغير، كانت دائما تراعي الراهن وترتكز على المعطيات المتوفرة والحقائق التي على الأرض وما هو جاري به العمل وما تتفاعل به الأحداث وما تنتجه المجتمعات من أفكار وآثار وتجديدات في شتى مناحي معايش الناس.
ولهذا، فقهنا الإسلامي وعلى رأسه الفقه المالكي، هو فقه المرونة التامة، يلاحظ أحوال المسلمين وإمكاناتهم وما لديهم وقوتهم وضعفهم وتقواهم وفجروهم وثرواتهم الفكرية والمادية وما لدى غيرهم من عدة وعتاد وأنظمة وثقافات وأرصدة في العادات والتقاليد لدى المسلمين وسواهم، فيبني فقهنا أحكامه على ما هو متوفر من الحقائق المرتبطة بالمستجدات الناتجة عن سنن التطور والارتقاء المستمرة باستمرار الحياة وتسلسل الأيام ضمن منظومة التاريخ البشري.
وعليه، فلم نجد في حدود علمنا، لدى الأئمة الأربعة المعتمدين مؤسسي مذاهب أهل السنة وأتباعهم من الجيل الأول فما بعده في القرون الخوالي، من أفتى بشق عصى الطاعة على الأمراء بادعاء الغيرة على (الخلافة الراشدة) ومحاولة إحيائها من جديد.
فالفقه السياسي التقليدي لدى السلف والخلف من أئمة أهل السنة والجماعة (الأحكام السلطانية) راعى ما ذكرنا ولم يكفر ولم يضلل أئمة بني أمية ولا أئمة بني العباس ولا من بعدهم أو كان في أزمنتهم ولا أئمة المغرب منذ المولى إدريس إلى زمان الدولة العلوية الشريفة، بل كلهم ارتكزوا على ثوابت الحكم وليس على أشكاله الظاهرة:
الثابت في الحكم الإسلامي الاستمداد من كتاب الله وسنة رسول الله مما صح من الأحاديث العلمية والعملية، والاستمداد من الإجماع إن وجد.
مراعاة العدل في الأحكام، وهذا أمر أساسي وجوهري في الدول الإسلامية
مراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد حسب القواعد المقررة.
تحقيق المقاصد المعروفة في حفظ وصيانة وتحصين الدين وهو الإسلام، والعقل والنفس والعرض والنسل، بشكل متوازن يراعي التعادل ما بين الفرد والجماعة، وما بين الإنسان والبيئة، وما بين المسلم وغيره، وما بين الممكن تحقيقه والصعب تحصيله،وترك المستحيل تحصيله.
حقن الدماء وتوحيد البيضة وحماية الوحدة وتحصين الأمة وإشاعة السلم والأمن والتأمين من الخوف والجوع (وهو ما يسمى الآن الأمن السياسي والأمن الغذائي) والجنوح كل الجنوح إلى عمارة الأرض واستغلال الكون بالعقل والحق وتذوق الجمال المبثوث في الحياة والإنسان.
وبالتالي يظهر جليا الآن أن إثارة فكرة استعادة الخلافة النبوية في زمان العولمة والثورة الرقمية والطفرة العلمية العملاقة وتعقيدات الراهن السياسي وشبكات العلاقات الثنائية والإقليمية والقارية والدولية وهي شبكات جد معقدة، وما هو رائج في عالمنا من الثورات الفكرية وإفرازاتها الثقافية والفنية وانعكاساتها على التجارة والاقتصاد، مرورا بالمناهج التعليمية والتربوية وما يطبخ من الدراسات والبحوث عن حاضر ومستقبل الإنسان، مع وجود نظام دولي أنتجته الحرب العالمية الثانية ثم طورته الحرب الباردة بين العملاقين وما جاء بعده من واقعنا المعاصر المعاش، بآلاته الإعلامية العملاقة وأدواته التواصلية المخيفة...
يظهر جليا الآن من خلال ما ذكرناه أن فكرة استعادة الخلافة حاليا يُعد ضربا من الخيال ونوعا من النزوع إلى أحلام اليقظة وحنينا إلى الخرافات الكامنة في الذات الباطنية، فهذه الفكرة نعتبرها تتجاوز الممكن إلى المستحيل والممتنع، وبالتالي فالاشتغال بها مضيعة للوقت لا أقل ولا أكثر، وهي مشغلة عن المهمات والأولويات التي يجب علينا أن نقوم بها.
فأفعال العقلاء تصان عن العبث.
وقد قال شاعرنا القديم ولله دره من شاعر
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وفي بدايات القرن العشرين، قال قائلون بالخلافة الإسلامية وحنوا إليها مثل عبد الرحمن الكواكبي في شكل من الأشكال وما ظفروا بشيء.
كما اشتهر عن غيرهم من المؤمنين بالجامعة الإسلامية منذ زمان جمال الدين الأفغاني الحنين إلى الخلافة الإسلامية وما حصلوا شيئا.
والمفكر مالك بن نبي رحمة الله عليه، كان من الذين يدعون إلى كومانويلث إسلامي كما في كتبه وكما حدثني عنه تلميذاه وهما الصديقان المرحومان الدكتور عبد السلام الهراس والأستاذ محمد شهبون، ومات الكومانويلث بموت مالك بن نبي تغمده الله برحمته.
والحركات الإسلامية العاقلة مدعوة إلى إعمال الفكر الهادئ ومراجعة الذات وتصفح التاريخ والتأمل في السنن وما جرت به القوانين الإلهية في التطور والارتقاء والتمدن، كما أشار إليه ابن خلدون في المقدمة، فإذا أعملت العقل وحللت المعطيات ستجد أن الضرب في الحديد البارد لا يفيد بمقدار ما يفيد الاشتغال داخل الممكن، وحسب المستطاع وفي حدود المتوفر، لأن ما لا يبلغ العاقل إلى تحصيله عليه أن يتركه حتى لا يضيع عمره في الباطل، ولينتقل إلى العمل والجد والاجتهاد فيما هو متاح لتحصيل أكبر قدر من المنافع للإسلام والمسلمين وللقطر والأمة، ودفع الأذى المحتمل جهد المستطاع عن البيئة والإنسان.
إن العبد الفقير إلى الله أعرف هذه النتيجة منذ عقلت على نفسي، والتجارب التي مررت بها أكدت لي هذا الأمر، وهو أن طلب ما لا يتحقق وجوده مضيعة للطاقة والجهد والوقت والمال وتفويت لما هو ممكن الوصول إليه، وهذا هو عين الصواب.
ولذلك نقول إن الإسلام الكريم لم يأتينا بالأغلال ولم تتضمن شريعته السمحاء الغراء قوالب حديدية ولا فلاذية في نظامه السياسي، بل دعانا إلى الثابت والجوهر واللب وهو مراعاة العدل وإشاعة القيم النبيلة وتخليق الحياة الإدارية والاقتصادية ونشدان الحلال والطهر والعفة والبراءة والصدق والنزاهة والجد وترك الفساد والغش والظلم والاستبداد والتلصص والتحايل، والعمل بنزاهة ووضوح للصالح العام وفي إطار حماية وحدة الأمة حتى لا يتمزق المجتمع والدولة. هذا هو المطلوب الذي نرى والله أعلم أنه الأجدى والأنفع، وأما الشكل العام للدولة وألقابها ونعوتها فهذا موكول إلى الظروف الزمانية والمكانية، وإن شاء الله لا ضير ولا ضرر في المصطلحات والأسامي والعناوين التي توضع على القوانين والدساتير وتدخل في البنود والفصول، فذلك لا يهم بقدر ما يهم العمق وهو القيم والمبادئ والمثل التي تقوم عليها الدولة.
نحن نحب الخلافة الإسلامية كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ أبي بكر الصديق إلى الآن يحبون الخلافة الراشدة لأنهم يحبون الخلفاء الأربع رضي الله عنهم، ولكن استعادة نظام الخلافة في زماننا وهو وقت الأمم المتحدة والأحلاف والمواثيق الدولية مستحيل تطبيقه وننصح العقلاء بالاشتغال بما هو ممكن من الأعمال والمساعي الحميدة.
هذه نصائح لله لمن يريد الله به خيرا. فما أصبت فيه فهو من الله تعالى وما أخطأت فيه فهو من نفسي ومن الشيطان نسأل الله العافية والسلام".
