الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: حوار مع صديقي المتشائم..

عبد الحميد جماهري: حوار مع صديقي المتشائم..

قال صديقي: يليق بنا الليل

قلت: لماذا يليق بنا الليل؟

قال صديقي بدون أدنى بوهيمية معروفة عنه: في الليل كنا نرى أفضل، وكان انتظارنا جزءا من الغد

سألته: واليوم ؟

أجابني: اليوم نحن نعيش في فجر كاذب..!لا ضباب فيه، ولكن ضبابيته سيدة ...

والانتظار فيه حصاة في العين

لا أنت سليم معافى ولا أنت راء

قلته له: لا أفهم منك هذا التشاؤم المغلف بالنصيحة..

قال: عندما طلع النهار وجدنا أنفسنا نملك الرؤيا ولا نملك الأفق، ووجدنا أن الذي عشنا أو متنا من أجله، يبدو وكأنه لم يتعرف علينا في ملامح الضوء.

سألته مجددا: لا تفصح الإرادة المتشككة في الحاضر عن كل انزعاجها منه، بل هي تداريه بالماضي القريب، وهو ليس جميلا

قال: أعدْ علي ما تنوي أن تجعله تفاؤلا بحاضر ناقص بمبررات ماض صعب؟

قلت: انتبه معي، نحن لم نكن في الجنة لكي نحلم بالعودة إليها بدون موتنا. نحن كنا في صراع رهيب مع الدولة وأجهزتها، وكان جدول الأعمال يتضمن أصلا الإبادة، لهذا قد يكون من الصعب علي أن أمدح الليل الذي خرجنا منه، وأشك بالفجر مهما كان كاذبا؟

قال: لا عليك أن تقرأ الليل من خلال.. أقماره وكواكبه، ولا من زحمة العتمة والرعب فيه. ماذا وجدنا عندما فارقنا الليل؟

قلت: سأعترف لك وجدنا عيوبنا فاتحة شهيتها لكي تبتلع كل محاسننا.

أضاف: ماذا بقي من نورنا، الذي كنا ننضد على شموعه ذكرياتنا الجميلة وقيمنا وحفلات الروح؟

قلت: أعترف أننا في مشكاة مطفأة، نرى نور الآخرين ونحن ضعنا في قيم لم تكن لنا، وفي سيناريو لم نكتبه لنا ولا لغيرنا، وضعنا أيضا في الهزائم التي لم تكن أبدا دليلا على أننا لم نعد في شعبنا، بل أن الشعب لم يعد فينا..

قال: ها أنت تستدرج نفسك إلى تشاؤمي، وتكبر الصورة أفضل لكي ترى ما أرى..فهل ترى ما أرى يا ترى؟

قلت: أرى أن الفجر ليس العيب الوحيد في عزلتنا أنا وأنت، ولا دمنا الطبقي هو الغائب الكبير، بل إن وهمنا بأننا لن نغادر المشهد صار كبيرا وها نحن نتلمس في واضحة العراء، طريقنا..

قال: أليس المنطقي أن نتلمسها في الليل لكي نبدو مفهومين؟

قلت: لقد أصبحنا يتامى الصراع الطبقي، منذ أن عوضنا الشعب بالمواطنين اعتقادا منا أن المفردة الجديدة ستجعلنا أكثر واقعية، لكن كنا نقدم صناديق الاقتراع لكي.. ندفن فيها!

قال: هذا يبرر تشاؤمي من الفجر؟

قلت: هذا ربما تفاؤل الإرادة مني.. وعليه فلكي تستقيم معادلة الحوار معك يا صديقي، لا بد من أن تتشاءم أنت لتحرر الفكر، وأتفاءل أنا لأحرر الإرادة

سألني: ماذا تقول الإرادة عند تحريرها، يسألك الفكر المتشائم بعد تحرره؟

قلت: تقول إننا خرجنا من الصراع الاجتماعي أيها الرفيق، وصرنا يتامى صراع نحن الذين ابتدعناه للإنسانية، وبعد أن تخلينا عنه، صار مفهوم الأمة اليوم يحتذي نعال هيجل لكنه يحمل ابن تيمية فوق ظهره.

قال: ليس الصراع الاجتماعي وحده الذي غادرنا، بل أيضا الصراع السياسي؟

قلت: اشرح لي أكثر

قال: كل الاستحقاقات التي خضناها نحن اليساريون الحالمون بشعب على مناخنا الاشتراكي واليساري، وجدنا أنها تقلصنا مثل فكرة قديمة.. ولم نجدد أي شيء من وهمنا الجدلي لكي نرى الواقع أفضل.. فنحن الذين لا مكان لنا في أراضي الديموقراطية الموعودة، صرنا نشبه ظلنا، لا فرق بيننا وبين الجنود العائدين من حرب شرسة، اللهم أننا نطارد قتلانا أكثر مما نطارد خصومنا!

قلت: ليكن ذلك، خرجنا من الشرط الاجتماعي، بنقاباتنا وبمنتخبينا وبممثلينا في مؤسسات الصراع النقابي، ثم خرجنا من الشرط السياسي، لكن هل غادرنا ، في تقديرنا الشرط التاريخي؟

قال لي: عن أي شرط تاريخي تتحدث، والبلاد تسير بخطى حثيثة نحو الماضي.. هل تعتقد بأن التاريخ يستمع الى حتميته من أفواهنا؟

قلت: أقصد تحولات الدولة؟

قال: قد وصلت إلى بيت القصيدة، هل تقصد الدولة الجهاز أم الدولة الكيان؟

قلت: لا فرق بين الرايتين في اختبار الجدلية..

قال: الواقع أن صراعنا من داخل منطق الدولة، كيسار وطني وواقعي، ترك لنا هامشا بأن نصارع الدولة الجهاز بأرضيتها وبأفقنا، غير أن التحول الذي تقوده الدولة يقدمنا كما لو أننا مسافرون في قطار كان لنا ذات يوم!

انظر إلى اليسار يا صديقي وهو يشترك المعارضة مع جزء من امتداد الدولة في المجتمع السياسي، تأمل التحولات التي تقع اليوم في منطق الدولة الذي كنا نفهم كيانها ونصارع جهازها..

قلت له، بغير قليل من المكر: لا نحن في صراع الطبقات، ولا في صراع الكيانات الاجتماعية ولا في صراع المكونات السياسية ولا في مواجهة الدولة، فأين نحن يا صديقي؟

سؤال لا يكون له معنى إلا إذا كان في جنح… الظلام، هكذا أجابني بكثير من المكر.