السبت 11 مايو 2024
مجتمع

محمد نجيب بقاش، قاضي سابق:لماذا تنحصر جرأة "شرع اليد" على قضايا دينية وأخلاقية دون مخالفات التعمير؟

محمد نجيب بقاش، قاضي سابق:لماذا تنحصر جرأة "شرع اليد" على قضايا دينية وأخلاقية دون مخالفات التعمير؟

يتحدث الأستاذ محمد نجيب بقاش، القاضي السابق، عن ظاهرة التعزير أو الحلول محل الدولة في إنزال العقاب، بما تشكله من مساس خطير بأمن المجتمع وسلامته، معتبرا أن المجتمع يبدو وكأنه يعاني من انفصام في الشخصية القانونية، يهمه فقط الجرائم المرتبطة بالمقدس الديني أما الانتهاكات القانونية الأخرى فيكتفي عادة فيها بالصمت محملا السلطة مسؤولية التقاعس عن زجرها ووضع حد لها.

مع واقعتي بني ملال وسلا، برزت ظاهرة القصاص الذاتي أو التعزير، هل هي عودة لزمن "شرع اليد"؟
يجب ملاحظة أن اغلب ضحايا هذا التطبيق التلقائي للقانون أو ما نسميه نحن ب " شرع اليد" هم أشخاص ضعاف في بنيتهم الجسدية ومجردين من أي سلاح، كما أن الاعتداء عليهم وقع وهم داخل مساكنهم بعد الهجوم عليه (حالة المرأة التي قيل أنها تُمارس السحر والشعوذة وحالة مثليي بني ملال) لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح هو لماذا عندما تتعرض فتاة أو امرأة أو حتى رجل في الشارع العام وفي وضح النهار لاعتراض السبيل من قبل بعض المتشرملين، يُفضل الكثير عدم التدخل والوقوف موقف المتفرج؟ هناك الكثير من الفيديوهات توثق ذلك، ما الفرق إذن بين جريمة السحر وجريمة اعتراض المارة وسرقتهم باستعمال السلاح؟ لماذا في الحالة الاخيرة يضع المجتمع شهامته ورجولته وغيرته على خرق القانون جانبا فيما يتحرك بكل قوته في الحالة الأولى؟ هذه مفارقة نعيشها في مجتمعنا..

الملاحظ أن كل الأفعال التي تقابل بالقصاص الذاتي، تكون ذات طبيعة دينية أو أخلاقية، هل هي صحوة ضمير؟
فعلا، يلاحظ  أن أغلب حالات ممارسة "شرع اليد" تطال أفعالا يعتبرها المشرع المغربي فعلا جرائم، لكنها في نفس الوقت أفعال تصدم وتجرح من جهة أخرى الضمير الديني للمجتمع، على اعتبار أن الشريعة الإسلامية تحرمها وتعاقب ماديا على بعضها مثل الشذوذ الجنسي وممارسة السحر والإفطار جهارا في رمضان وغيرها، فالواقع أن الذي يحرك ظاهرة شرع اليد هو الضمير الديني بالدرجة الاولى وليس الضمير القانوني على اعتبار أن الأول هو الأوسع  اشتراكا بين الجمهور والأكثر إجماعا عليه. فنحن مثلا نصادف يوميا العشرات وربما المئات من مخالفات البناء واستغلال الملك العمومي دون ترخيص قانوني، نمر عليها ونشاهدها لكننا جميعا نكتفي بالاحتجاج في قرارات أنفسنا رغم الضرر المادي والنفسي طويل الأمد الذي ستسببه مثل هذه المخالفات لنا ولمدننا المشوهة، غير أنه بمجرد ما نشاهد شخصا يشرب كوب ماء قبل حلول ساعة الافطار في رمضان، فقد يهرع الكثير إليه ويوبخه وربما يعتدي عليه دون أن يتأكد ما إذا كان مريضا أو أن له رخصته في الإفطار، إن المجتمع يبدو هنا وكأنه يعاني من انفصام في الشخصية القانونية، يهمه فقط الجرائم المرتبطة بالمقدس الديني أما الانتهاكات القانونية الأخرى فيكتفي عادة فيها بالصمت محملا السلطة مسؤولية التقاعس عن زجرها ووضع حد لها. إن هذه الظاهرة كان المجتمع الأوربي يعاني منها قبل حدوث الثورة البروتستاتنية التي أعادت تشكيل الفكر القانوني في الغرب مانحة لما يسمى بالقانون الوضعي نفس القدسية والاحترام التي كانت تحظى بها القوانين الدينية الكنسية فيما قبل.

بعض من يلجؤون لتطبيق القانون، والحلول محل الدولة في إنزال العقاب، يبررون أفعالهم، بأن السلطة لاتقوم بالاستجابة لشكاياتهم، هل هو مبرر مقبول؟
هذا عامل آخر يدفع إلى هذه الظاهرة، وهي ذلك الإحساس العام بعدم السيادة الفعلية للقانون والانتقائية في تطبيقه وكذلك عدم الثقة في المؤسسات المشرفة على تحريك القانون وتطبيقه.  إن الخوف والشك في ألا يطال العقاب أو حصول مراوغة في تطبيقه  على هؤلاء الذين يرتكبون أفعالا تمس بالدرجة الأولى الضمير الديني، هو ما يدفع المواطنين إلى الإسراع بالاقتصاص بل والمبالغة فيه إلى درجة أن يصبح تصرفهم هذا جريمة كذلك، بل وجناية أحيانا مقابل جنحة أو مخالفة تصدوا لمرتكبيها. إنهم بذلك يفسدون حتى على الجهاز القضائي عمله، على اعتبار أن القضاء هنا لا يمكن أن يقبل شهادتهم، فمثلا هؤلاء الذين اقتحموا على مثليي بني ملال شقتهم وقاموا بالاعتداء عليهم سيتابعهم القضاء حتما بالهجوم على مسكن الغير والضرب والجرح، لكنه لن يقبل شهادتهم بممارسة المثليين لأفعال الشذوذ الجنسي في حالة إنكار هؤلاء ما نسب اليهم، وذلك لأن شهادة متهم على متهم لا تجوز إذا كان الجميع متابع في نفس القضية وبسبب واقعة واحدة.

إذا كان هؤلاء المقتصون الذاتيون، يرتكزون على المرجعية الدينية في تغيير المنكر، هل هناك اجتهادات فقهية في هذا الموضوع؟
 ما قرره فقهاؤنا، هو أنه لا يجوز التعدي على ما هو حق للسلطة التي وحدها لها الأولوية والحق في التثبت من الجرائم وتكييفها بعد ذلك. بمعنى أن كل إسراع بالاقتصاص أو إعمال لشرع اليد كان يوجب العقاب. قال عبد الملك بن حبيب (فقيه مالكي أندلسي تتلمذ على يد كبار أصحاب الإمام مالك): سمعت ابن الماجشون (تلميذ الإمام مالك و صاحبه) يقول وقد سئل عن رجل وجد رجلا عند زوجته فقتله، فأجاب بأن عليه القَوَد أي القصاص إذا لم يكن له شهود على دخول الفرج في الفرج ساعة ضبطه، بل وحتى في حالة وجود شهود فعليه الأدب من السلطان لافتياته عليه أي بتعديه و تجاوزه لاختصاصه وصلاحياته بأن قام بتعجيل قتله بدل الاكتفاء بالتبليغ عن هذه الجريمة، فهنا يعاقب الفقه المالكي على أي ممارسة لشرع اليد وعلى أي تجاوز وتعدي لاختصاص السلطات القائمة في مكافحة الجريمة. إن مفهوم تولي جهة معينة تُبلَّغ إليها الجرائم ويُهرع إليها عند ارتكابها وتكون لها وحدها الصلاحية في التثبت منها والمعاقبة عليها بعد ذلك، مفهوم سبق إليه الفقهاء المالكية منذ قرون خلت وقد عبروا عنه قديما ب " حق السلطنة " وهو في الواقع، نفس المفهوم الذي سيطوره الغرب لاحقا و سيتخذ من عبارة " الحق العام " اسما له وهو الذي تمارسه النيابة العامة حاليا.
 ففقهاؤنا المالكية كانوا إذن سباقين إلى بلورة فكرة دولة الحق والقانون ومحاولة إرساءها.