الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

سعيد زريبيع: نهاية حركة 20 فبراير، نقطة إلى السطر..

سعيد زريبيع: نهاية حركة 20 فبراير، نقطة إلى السطر..

أسدل الستار عن النسخة الخامسة لذكرى حركة 20 فبراير التي كانت العنوان الأبرز لحراك مغربي حاول استلهام واستنساخ ثورات الربيع الذي تحول إلى خريف جارف بالنظر للنتائج والانعكاسات التي تمخضت عنه، والتي ما زالت شعوب الدول العربية التي كانت مسرحا له، تدفع ضريبته كاملة من أمنها واستقرارها ونموها ورقيها الاقتصادي والتنموي، ربيع ما زال يشرع الأبواب للكثير من التساؤلات والجدليات الاشكالية بدءا من أسسه وأرضيته، ثم مآلاته وأفقه، في ظل الدروس التي استقتها الشعوب من هذا الحراك الذي كانت عواقبه كارثية بكل المقاييس، وإن كان المغرب قد عاشه باستثنائية وخصوصية مختلفتين، فقد بدت الشوارع في أغلب المدن المغربية هادئة ولم تنفجر الأرض بالحشود الجماهيرية كما تم الترويج له سلفا قبل هذه المناسبة، اللهم الوقفة المحتشمة بالرباط..

وإذا كانت التيارات المتزعمة لهذا الحراك تسوق الكثير من المبررات والأسباب لهذا الاخفاق المدوي، وهي مبررات لا تقنع حتى أصحابها، الأمر الذي يستشف معه المتمعن من ذوي البصيرة أن المعنيين لازالوا لم يضعوا يدهم على الجرح، متناسين أو متجاهلين الوقائع على الأرض، مما يقدم الانطباع بأنهم كمن يعيش في جزيرة معزولة بقراءات سياسية مثالية وأحلام طوباوية..

لقد عرفت الاطارات المكونة لهذا الحراك هزات كانت أكبر من أن تدرك معانيها ودلالاتها، وذلك بسبب الولادة القيصرية المشكلة لتحالفها، والتي ليس أولها التباين الإيديولوجي الفج، الذي كان هو الآخر أكبر من أن تستوعبه جبتها، وأكبر بكثير أن تحجب بغربالها تناقضاته الصارخة، بالإضافة أيضا إلى التباين في التربة المغربية التي أبت أن يتم إنبات مبادئ وقيم غريبة عن خصوصيتها الثقافية والقيمية، فالشعوب التي ثارت على أنظمتها الشمولية، كانت تعيش على وقع قبضة أمنية رهيبة، يتزعمها “العسكر”، أو الحزب الوحيد للدولة الذي اجتهد في كبت الغضب بالنفوس وإخراس الألسنة ومصادرة حرية التعبير وتجريم التعدد الإيديولوجي، وتبعا له تحريم التعددية الحزبية، أنظمة لم تحظ بالإجماع الشعبي في أي مرحلة من مراحل عمرها السياسي، كما أن هذه الأنظمة تفاجأت بالموجة الثورية فكانت ردة فعلها على قدر وقع المفاجأة، فعاثت في العباد والبلاد بطشا، مخلفة مذابح ومجازر تخطف ألباب وقلوب العالم، ولعل النموذج السوري والليبي ليسا عنا ببعيد..

في المقابل، تحظى المؤسسة الملكية بالمغرب بإجماع قل توفره لأي من النظم السياسية القائمة بالعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، كما أن تعاطي هذه المؤسسة مع الحراك الذي شكلت حركة 20 فبراير قطب الرحى ورأس الحربة فيه جعل المؤسسة الملكية تحصد الإشادة والتثمين، حيث لم يتم تسجيل أي تدخل أمني عنيف على مدى ثلاثة أسابيع كاملة “بداية الحراك”، على الرغم من محاولات البعض جر القوات العمومية له، بغية تسويقه لشرعنة الحراك، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت مشرعة الأبواب على مصراعيها في هذا الإطار، ولتأتي الاستجابة الملكية سريعة من خلال خطاب 9 مارس، الذي رسم خارطة طريق تجاوزت سقف الشعارات المرفوعة من لدن هذا الحراك بسنوات ضوئية، واستتبع ذلك خطوات عملية على الأرض، كعربون لحسن النوايا من خلال التنزيل السريع للخطوط العريضة التي رسمها نفس الخطاب، من قبيل التمكين لمطالب “الحركة الأمازيغية” وتكريم لسانها بتكريسها لغة رسمية للبلاد في سابقة هي الأولى من نوعها، وهي دلالة عن نضج العقل السياسي أو العلبة السياسية التي تنتج القرارات المصيرية والاستراتيجية للمملكة، وتعكس بعد النظر برؤية استشرافية للمستقبل..

في خضم كل هذا، أتت الانتخابات التشريعية وما أفضت إليه من نتائج ومن التزام بالشفافية والمصداقية انسجاما مع التوجيهات الملكية، لتضفي روحا جديدة على العمل السياسي مشرعنة بذلك النظام السياسي القائم، خاصة بعد تكريس دستور2011 الشق الأهم في “الملكية البرلمانية” من خلال منح الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية مسؤولية قيادة الحكومة المغربية، والتأسيس لمؤسسة رئيس الحكومة، والتي حملت هذه المرة زعيما إسلاميا لهرمها في شخص “عبد الإله بنكيران”، وهي رسالة تضج بالكثير من المعاني، أهمها أن اختيار الحكومة يمر عبر صناديق الاقتراع، وبالتالي ليست هناك حاجة أو ضرورة لثورة تأتي على الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل، ثورة تؤسس للفوضى والعبث بمصير ومستقبل الأوطان، وتربطها بالمجهول..

وهكذا مرت أجواء الربيع أو الخريف أو باقي فصول السنة بردا وسلاما على المغرب، ليأتي حراك رواد حركة 20 فبراير  اليوم ليضيف الكثير من الأسئلة والاستفسارات على مستقبلها السياسي بعد أن تفجرت خلافاتها للعلن، وباتت عصية على الطمس أو الإخفاء، وهو ما انعكس على شكلها الاحتجاجي المنظم اليوم، الذي بدا شاحبا كمن عصفت به السنون.. فقد أدى غياب أرضية مشتركة بين مكوناتها إلى بروز خلافات جانبية وثانوية بعد دخولها في صراعات أفقية، كانت بمثابة رصاصة الرحمة على أفقها السياسي متوجا بانسحاب التيار الأقوى والأقدر على الحشد والتنظيم. فقرار حركة “العدل والاحسان” تعليق مشاركتها جعل مستقبل 20 فبراير ملبدا بالكثير من الغيوم، وذلك بعد أن ارتأت أن وصول حزب “العدالة والتنمية” مكسب ينبغي عدم تبخيسه، وهي خزانه الانتخابي بالرغم من التباينات التي يظهرها أقطابهما معا في إطار خلط الأوراق والتأثير على صناعة الرأي العام من خلال تبادل الأدوار والمواقع.. فغير خاف أن التجربة الحكومية للعدالة والتنمية تصب بشكل أو بآخر في إطار التراكم المطلوب من لدن التيارات الإسلامية لبلورة مشروعها بطريقة أحسن وأنجع، فقد أعلنت حركة العدل والإحسان وبشكل ذكي لا يخلو من براغماتية سياسية “أن مصلحة الوطن تفرض تغليب المشترك وتأجيل المختلف حوله والاتفاق على طرق تدبير التباينات بحسن النوايا السياسية، وليست الإيديولوجية”، وهي رسالة لذر الرماد في العيون حسب حزب اليسار الاشتراكي الموحد الذي قدم ورقة نقدية خرج من خلالها بأن أسباب إخفاق حركة 20 فبراير هو “الإسلاموية المتطرفة”، وعلى ذات الدرب سار كل من النهج الديمقراطي واليسار الراديكالي..

هذا السياق الجديد للتراشق بالكلام والبيانات وعلى رؤوس الأشهاد، هو السر الكامن في الصورة الضعيفة للشكل الاحتجاجي المنظم من لدن حركة 20 فبراير.

فالتناقضات والأضداد لا يمكن جمعها في سلة جبة حراك واحد، فمهما كانت محاولات إخفاء ومواربة ذلك فلا بد لهذه الأخيرة أن تفرض ذاتها، وتبرز للوجود مخلفة تصدعات يصعب بل يستحيل لملمتها وجمع شظاياها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما دفعت هذه الحركة الوليدة فاتورته كاملة وغير منقوصة، ليبقى لسان حال الجميع يقول: رب ضارة نافعة، فمصير الأوطان ليس لعبة تحركها الأمزجة والأهواء..