يشكل التدخل الروسي المباشر في سوريا، من خلال النزول بكافة ثقلها السياسي والعسكري تحديا مباشرا للغرب وتأييدا واضحا للنظام السياسي القائم في سوريا بقيادة بشار الأسد، ومن ثم اعتباره ورقة لتغليب كفة النظام السوري على معارضيه السياسيين والعسكريين، في ظل طول أمد الصراع الدائر بين أطرافه، المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وبعض دول المنطقة، والنظام السوري المدعوم من قبل حلفائه روسيا وإيران.
وقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون، بتنسيق مع الدول المجاورة لسوريا، خلال السنوات الأربعة الماضية، على العمل على خلق شبكة من العلاقات بين الفاعلين السياسيين من كلا طرفي الأزمة السورية (النظام/المعارضة)، لأجل تقريب وجهات النظر وتضييق الفجوة بين المتصارعين من أبناء الشعب الواحد، الذين فرقتهم مشارب السياسة في رقعة جغرافية الوطن الأم، انتهت بتنظيم لقاء (جنيف1) بتاريخ 30 يونيو 2012، الذي حضره وفد من النظام الحاكم بسوريا ووفد من الائتلاف السوري المعارض، ارتبطت أرضيته حول ضرورة السهر على تطبيق خطة النقاط الست وقراري مجلس الأمن بما يشمل الوقف الفوري للعنف بكافة أشكاله، التي تولى مهمة صياغتها كل من المبعوث الأممي آنذاك السيد "كوفي عنان" و"مجموعة العمل من أجل سوريا".
لم يكن هذا اللقاء الفيصل في حلحلة الأزمة، بل عقبه تنظيم لقاء آخر بنفس المكان حمل نفس اسم اللقاء الأول بإضافة الرقم اثنين (جنيف2) لتمييزه عن سابقه، الذي انعقد بتاريخ 22 يناير 2014، لعب فيه مبعوث الأمم المتحدة للسلام في سوريا السيد "الأخضر الإبراهيمي" دورا كبيرا لأجل الجمع بين طرفي الصراع في سوريا على طاولة المفاوضات لمناقشة إمكانية تشكيل حكومة انتقالية في سوريا مع صلاحيات تنفيذية كاملة، دون أن تسجل نقاط ايجابية تضمن حصول تقدم ملموس بين أطراف الصراع في سوريا، لبلوغ توصيات من شأنها التمهيد للانخراط في مرحلة متقدمة من مراحل التسوية السياسية، باستثناء التأكيد على التوصيات المتمخضة عن لقاء جنيف1 خاصة منها ما يرتبط بالوقف الفوري لكافة الأنشطة العسكرية، والتوجه في المقابل إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى حل سياسي ينهي الأزمة، ويفتح الباب أمام مرحلة انتقالية.
لقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بمساعدة دول الخليج وتركيا دورا كبيرا في إقناع المعارضة بالحضور في لقاء جنيف 2 بالنظر إلى الرهانات المعلقة عليه في حل الأزمة السورية، خصوصا بعد غياب نتائج ملموسة تمهد للعملية السياسية عن لقاء جنيف 1. مع العلم أن حصيلة اللقاء الثاني لم تتغير عن سابقتها، وإنما هي مشابهة للأولى، حيث أنه لم يحقق أي تقدم بين الجانبين، بل ساهم في تعميق الفجوة بينهم. نجم عنها تقديم المبعوث الأممي الخاص بسوريا السيد "الأخضر الإبراهيمي" استقالته من مهامه، تولى بعده السيد "دي مستورا" هذه المهمة، والذي عمل على استكمال الخطوات التي أسس لها سلفيه في المهمة (كوفي عنان/ الأخضر الإبراهيمي)، المرتكزة على فتح قنوات اتصال بين الأطراف المتصارعة والفاعلين في تأجيج فتيلها.
إذا كانت المرحلة الأولى من الأزمة السورية بين أطرافها المتناقضة أيديولوجيا وفكريا، عرفت تولي زمام المبادرة السياسية لحلها من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين وبعض القوى في منطقة الشرق الأوسط، دون أن سيجل أي تقدم يذكر في البحث عن حل سياسي، لاعتبارات عدة لعل أبرزها: التقدم المسجل ميدانيا من طرف فصائل المعارضة بكافة توجهاتها، لأجل إحداث تصدع في بنية النظام السياسي السوري كي يعترف بها كقوى سياسية وعسكرية تمثل أطياف من الشعب السوري، وبالتالي الرضوخ لمطالبها وشروطها، فإن المرحلة الثانية من هذا الصراع عرفت انتقال زمام المبادرة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب إلى روسيا، لسبب أساسي يرتبط بالتراجع الميداني لفصائل المعارضة، مقابل تقوي دور الجيش السوري في إعادة بسط سيطرته على المناطق الاستراتيجية، التي كانت تحت سيطرة قوى المعارضة ومحصنة من قبل فصائلها المسلحة، وهو ما ساهم في فرض شروط النظام السوري من طرف حليفه الروسي، لأجل التأسيس للعملية السياسية بما يتوافق مع توجهاته ورهاناته التكتيكية والاستراتيجية، من منطلق إيمانها بقوتها الميدانية، خاصة بعد الإنزال العسكري الأخير لروسيا في سوريا.
يجد التدخل الروسي ميدانيا في سوريا أساسه في السعي لقلب موازين القوى لصالح التوازن الإقليمي والدولي، سواء على مستوى صناعة القرار السياسي أو على مستوى التغلغل الاقتصادي.. ومن جانب آخر فإنه يسعى للحفاظ على المصالح الاستراتيجية والأمن القومي للدولة الروسية في الشرق الأوسط، باعتبارها من جهة منطقة صناعة الأزمات السياسية الدولية.. ومن جهة ثانية منطقة لتصريف الأزمات العسكرية والاقتصادية والمالية العالمية. لأجل ذلك، فإن التدخل الروسي في الأزمة السورية يستمد قوته من النفوذ الذي أصبحت تتمتع به روسيا في الشرق الأوسط، الذي مكنها من تبوء مكانة بارزة خولتها القدرة على تقديم الحلول التي تراها مناسبة وتتوافق مع مصالحها ومصالح شركائها بالمنطقة، خاصة من خلال تنسيقها وتدخلاتها التي توجت بتخلي القوى الدولية الفاعلة في الأزمة عن الحل العسكري، مقابل فرض الحل السياسي كخيار مستدام لحل الأزمة السورية.
إن من شأن الجهود المبذولة حاليا بين قطبي العالم (الولايات المتحدة الأمريكية/ روسيا) لأجل التوصل إلى حل سياسي متوافق عليه بين أطراف الأزمة في سوريا، يختزن إرادة في طريقها لإنهاء الصراع السوري/ السوري المدعوم من قوى خارجية، والعمل على قطع الطريق أمام استمرار القتال في الجبهات العسكرية، خصوصا في المناطق المحاذية لتركيا التي أصبحت أمكنة لتغذية الجماعات المسلحة سواء عبر الدعم أو التوجيه، على اعتبار أن من الضمانات الأساسية لبلوغ تسوية مستدامة لهذا الملف ترتبط بالشروع الفوري في إنهاء الصراع العسكري الدائر على أرض الشام، عبر القضاء على كافة مصادر تغذيته، دعاماتية كانت أو فكرية أو عقائدية، إذا توفرت لذلك إرادة سياسية حقيقية لدى القوى الدولية الفاعلية في الأزمة (مجموعة العمل من أجل سوريا).
غير أن من بين التحديات التي قد تعيق التوصل إلى حل مستدام أو على الأقل تأخير الزمن السياسي لبلوغه، يرتبط بخضوع أحد أطراف الأزمة السورية أو هما معا للإملاءات الخارجية أو الوصاية من بعض الدول الإقليمية الفاعلة، الأمر الذي من شأنه الحد من المساهمة في تحقيق تقدم ملموس بين الجابين، في المفاوضات المقبلة تحت إشراف الامم المتحدة عبر المبعوث الخاص لسوريا السيد "دي مستورا" لبلوغ التوافقات السياسية المطلوبة، وهو ما سيبقي هذه المفاوضات رهينة حسابات ضيقة مرتبطة بأجندة الدول الفاعلة في صناعة القرار الإقليمي، باعتبارها تمثل عاملا مساهما في تغذية الصراع السوري / السوري، وقوة مستفيدة بامتياز من طول أمده.