الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: من نوال السعداوي إلى فاطمة ناعوت

دلال البزري: من نوال السعداوي إلى فاطمة ناعوت

في عهد مبارك البائد اشتهر رجلان في إقامة "الحسْبة" ضد كتاب بتهمة "ازدراء الأديان"، أو "خدش الحياء". أحدهما، المحامي نبيه الوحش، كان قد نجح في دعوى تفريق المفكر نصر حامد أبو زيد عن زوجته ابتهال يونس، بعد كتابه "نقد الفكر الديني"؛ فتسبّب بهجرة المفكر إلى هولندا، حفاظاً على عائلته. كان ذلك عام 1995. بعد ست سنوات، رفع المحامي نفسه دعوى مماثلة ضد نوال السعداوي، بالتهمة نفسها، بعدما أطلقت في مقابلة صحافية مع مجلة "الميدان" مجموعة من المواقف النقدية إزاء عدم المساواة بالإرث بين الأبناء والبنات، طقوس الحج، والحجاب... وكلها على خلفية كتبها الكثيرة، التي تنْكب فيها على نقد جذري للمعتقدات البائدة، وللتفسيرات شديدة الرجعية للإسلام.

وقتها، كان واضحا أن مبارك، بعلاقته الملتبسة مع "الإخوان المسلمين" والسلفيين، يعزّز مواقف حمَلة التفسيرات الرجعية هذه: يلاحقهم أمنيا، يلعب معهم لعبة القط والفأر، خصوصا في المواسم الانتخابية. ولكنه في المقابل، وتماشياً مع إرث سلفه أنور السادات، "الرئيس المؤمن"، يقدم نفسه بصفته الرئيس الحريص على الدين والشريعة، فيترك الحرية التامة للدعاة التلفزيونيين الأصوليين، ولوسائل إعلامهم، ولهواماتهم الدينية إلخ. وقتها، كان يمكن لك الاستنتاج، وعن حق، بأن مبارك، الذي بدأ عهده "ديموقراطياً"، مطلقا سراح السجناء السياسيين، صار، مع الوقت، ومع الحسابات السلطوية، "ثيوقراطياً": يحكم بنظام العقلية المطواعة، المجايرة لكل المقولات الدينية التي يدافع عنها الأصوليون الدينيون. ومع ذلك، نجتْ نوال السعداوي من حكم الطلاق من زوجها، شريف حتاتة، ورفضت المحكمة الدعوى، وبقيت السعداوي معه، حتى طلاقها منه عام 2009. الضجّة التي أثارها فشل هذه الدعوى دفعت الحكم إلى إصدار قرار بمنع دعاوي "الحسبة" الشخصية المباشرة، وقصر رفعها على النائب العام.

الآن، وبعد ثورتين على مبارك، وعلى "الإخوان المسلمين"، عادت الأجواء إلى ما سبقهما. شاعرة مرموقة، فاطمة ناعوت، شاركت في الثورة ضد مبارك و"الإخوان"، وكانت على قائمة الاغتيالات الإخوانية، تنزل على صفحتها في "الفايسبوك" كلمة من أربعة أسطر، تصف فيها قسوة ذبح الخراف كأضاحٍ، ومجانيته التامة. كلمات شعرية، تبدأ هكذا: "بعد برهة تُساق ملايين الكائنات البرية لمذبحة يرتكبها الإنسان منذ عشرة قرون ونصف...". تلميحها الأقوى إلى الدين، يأتي في سياق قولها بأنه خلف "مذبحة الخراف" هذه، يقف "كابوس أحد الصالحين في شأن ولده الصالح". لم تكن تتوقع بأن مجرد بوست، أقل راديكالية من أفكار السعداوي وأبو النصر، سوف يتسبّب لها بحكم صدر عن محكمة جنح الخليفة، يعاقبها بالسجن ثلاث سنوات ويغرمها عشرين ألف جنيه. الحكم سيستأنف، وحملة التضامن مع الشاعرة مستمرة. وقد ينقض الحكم نفسه ويعود عن عقوبته الرعناء هذه.

ولكن السؤال يفرض نفسه: بعد ثورتين، على عهد مبارك و"الإخوان"، وبعد الخطابات الرنانة للرئيس السيسي، على امتداد العامين السابقين، حول ضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية "بفكر مستنير"، ما يقتضي القيام بـ "ثورة دينية"، وبـ "تجديد الفكر الديني"، بـ "ثورة ضمير وأخلاق"، بـ "عدم اقتصار الأديان على العبادات وحدها"... هذا الرئيس الذي يتشبّه بجمال عبد الناصر، الذي أطاح بحكم "الإخوان المسلمين"، ولم يتردّد في ملاحقتهم وقتلهم وإصدار أحكام إعدام بحق رئيسهم ومسؤوليهم الكبار، ليرمي أضعفهم في أحضان الإرهاب... ها هو أمام "بوست" شعري مرهف، أقل صراحة وهجومية من كتابات نوال السعداوي، يسجل تراجعاً عما كانت عليه الأمور في عهد مبارك، ولكنه يحتفظ بالمبدأ نفسه: يلاحق "الإخوان" أمنيا بأشرس مما كان يفعل مبارك، ولكنه يخوض لعبتهم الأيديولوجية، وللحوافز نفسها التي كانت تتملك مبارك؛ أي تقوية شرعيته عبر تمرير مقولات وأفكار "الإخوان" وكل مجموعات الإسلام السياسي. هذا التناقض بين الأقوال والأفعال، بين الشرعية المدنية والشرعية الدينية، لا يتحمّل السيسي وحده مسؤوليته، وإن كان صاحب سلطة في حماية الأحرار من عسف الفكرة التي ما زالت راسية في "الدولة العميقة"، والتي تحكم بقانون "ازدراء الاديان" (المادة 98)، المستنبَط من النص الذي يجعل "مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيس للدستور"، ويضع تعارضا وجوديا بين هذه المبادئ، وبين "القوانين الوضعية الكريهة".

وبين لحظتنا هذه، وتلك التي سوف تشهد انبعاث الإصلاح الديني، طريق طويل يجب أن يضجّ بحالات ومحاكمات وملاحقات وعقوبات مثل تلك التي تتعرّض لها الآن فاطمة ناعوت. من دون ملء هذا الطريق باجتهادات مستنيرة، صادرة خصوصاً عن نساء، لن يحصل شيء، سوى الإذعان والصمت.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)