الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد ابن الأزرق: تفكيك جذور التطرف.. الفهم المحرَّف لآية الجزية

محمد ابن الأزرق: تفكيك جذور التطرف.. الفهم المحرَّف لآية الجزية

كان تفسير القرآن الكريم وفهمه مرتبطين بالأحداث والوقائع التاريخية، مسايرين لحالة الحرب والعداوة المستعرتين بين المسلمين وغيرهم، نابعين من حال القوة والعزة، لا بالنظر لسياق الآيات وموضعها من السورة خاصة ومن القرآن عامة.

ثم جاء عصر الأمويين والعباسيين، فكان ملوك العض وجبابرة الدولتين بحاجة للسند الديني من أجل تحقيق أحلامهم التوسعية ولو على حساب دماء المسلمين وقود الغزو، بل وعلى حساب مبادئ الشريعة السمحة، فسارع كثير من الفقهاء طوعا أو كرها، قناعة أو تقليدا، إلى تزويد الغزاة الجبابرة بالتفسير المحرف لكلام الله عن مواضعه استنانا بسنة اليهود والنصارى مع التوراة والإنجيل.

وهكذا، ظهرت جذور التطرف في تراثنا، وتحول تطرف التفسير إلى ثقافة شعبية شائعة بفعل الصراع بين الأمة المسلمة وشعوب الأرض المجاورة لها، إلى أن جاء الاستخراب الغربي الذي جثم في شوطه الأول على الأمة كلها عسكريا بشكل مباشر، وفي شوطه الثاني الحالي بشكل مباشر أيضا على جزء من الأمة في أفغانستان والعراق وسوريا، وبشكل خفي مستتر على باقي أجزاء الأمة، فعادت التفاسير التحريفية لكتاب الله تعمل عملها بين الشباب المتحمّس المندفع بالعاطفة الطوباوية نحو التنظيمات العنيفة المغرّر بها حينا والخادمة لمشاريع المخابرات الدولية حينا آخر.

نعم أيها الإخوة في الدين والوطن، تراثنا الفقهي مسئول قبل غيره عن تطرف شباب الأمة الجاهل المجهّل، وقد آن الأوان لنعترف بهذه الحقيقة تبرئة لكتاب ربنا وسيرة نبينا عليه السلام، وأن نتدبر كلام الله بعيدا عن تفاسير المتقدمين التحريفية وعن العاطفة المجروحة بالذل والهوان الناتجين عن الفيتو الدولي الذي يعرقل تحرر الأمة واستقلالها سياسة واقتصادا وعسكرة.

وفي سورة التوبة آية تلاعبت بها آراء المفسرين القدامى، فصار تحريفها عن موضعها أحد جذور التطرف.

نـصّ الآية:

قال الله جل جلاله في سورة التوبة/ الآية 29: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ، حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

التفسير التحريفي المؤصل للتطرف:

حرّف كثير من المفسرين القدامى الآية فزعموا أنها تشرع قتال أهل الكتاب (اليهود والنصارى) ولو لم يكونوا محاربين وعدوانيين، أي ولو كانوا مسالمين لا يحاربون المسلمين ولا يتآمرون عليهم مع أعدائهم.

وزعم فقهاؤنا، غفر الله لهم، أن أهل الكتاب مخيرون بين الإسلام والجزية، فإما أن يدخلوا الإسلام كرها فيمتلكون حق المواطنة الكاملة في ظل الدولة المسلمة، أو يعلنون الخضوع والاستسلام للنظام والحكم المسلم مع أداء الجزية وهي ضريبة مالية عن كل شخص بشروط مفصلة بإطناب كسروي وقيصري في المصنفات الفقهية لدى كل المذاهب.

وتطرف كثيرون من أسلافنا الفقهاء، فاستخرجوا من كلمة (صاغرون) الدالة على الهزيمة العسكرية لا غير، وجوب إذلال المواطن الذمي الكتابي عند أداء الجزية، وهو ما تم تفعيله وترجمته من زمن معاوية بن أبي سفيان إلى عهد أباطرة العثمانيين وغيرهم، فكان ذلك أهم عامل في توقف انتشار الإسلام بين الشعوب المغزوة من قبل المسلمين الفاسدين فقها وسياسة وحكما.

ولا يزال الفهم المحرف للآية معتمدا اليوم لدى المفسرين والفقهاء والباحثين في الفكر الإسلامي إلا من رحم الله ونوّر بصيرته، بل إن أدبيات كبريات الحركات الإسلامية ترسخ ذلك وتؤكده، فهيهات يأذن لها رب العزة بالفتح والتمكين.

أما التنظيمات المتطرفة الغالية فتستند إلى هذا الفهم المشوّه الأعمى، وتصرح في جنون أنها ستحارب العالم حتى تسلم شعوب الأرض أو تدفع الجزية صاغرة، فقبحه الله من فهم وفقه جرّ ويجرّ الويلات على المستضعفين من أمة مولانا محمد صلى الله عليه وسلم قبل المقهورين من شعوب العالم.

نماذج من الأقوال الفاسدة التافهة المجنونة:

نفتتح ذلك بما قاله إمام كبير وحافظ شهير، هو ابن عبد البر في كتاب "فقه أهل المدينة"، قال سامحه الله: (باب من يقاتل من أهل الكفر حتى يدخل في الإسلام أو يؤدي الجزية والحكم في قتالهم: يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس، وسائر الكفار من العرب والعجم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ويسترق الغرب الكفار إن سبوا كالعجم، وقيل: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس لا غير من بين سائر أهل الكفر، ولا يقبل من غير هؤلاء إلا الإسلام أو القتل، قاله جماعة من أهل المدينة وأهل الحجاز والعراق، وإليه ذهب ابن وهب، وهو قول الشافعي. وكل من بلغته دعوة الإسلام من الكفار لم يحتج إلى أن يدعى، وكل من لم تبلغه الدعوة لم يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام، وكان مالك يستحب إلا يقاتل العدو حتى يدعوا إلى الإسلام، بلغتهم الدعوة أولم تبلغهم إلا أن يعجلوا عن ذلك فيقاتلوا. ولا يجوز تبييت من لم تبلغه الدعوة، وأما الروم فلا بأس بتبييتهم لبلوغ دعوة الإسلام إليهم وقرب دارهم، وكل من أبى من الدخول في الإسلام أو أبى إعطاء الجزية قوتل، فيقتل الرجال المقاتلة وغير المقاتلة إذا كانوا بالغين، ولا يقتل النساء ولا الصبيان ولا العجائز ولا الشيوخ الزمنى ولا المجانين ويسبون، فإن كان الشيخ ذا رأي ومكر ومكيدة يؤلب بذلك على المسلمين جاز قتله وإلا فلا، ولا يقتل أهل الصوامع والديارات ولا يؤخذ من أموالهم إلا ما فضل عن كفايتهم...).

وفي الشرح الكبير للدردير سامحه الله وأنجانا من سموم قوله: (وتؤخذ كل من الجزيتين (مع الإهانة) أي الاذلال وجوبا (عند أخذها) لقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، ويصفع على قفاه عند أخذها، ولا يقبل من النائب، بل كل أحد منهم يعطيها بنفسه لأجل إهانته عسى أن يكون ذلك سببا لدخوله في الإسلام).

قلت: بل يزداد كفرا به وعدوانية وحقدا على أهله.

وعدّد ابن جزي في القوانين الفقهية ما يجب على المواطنين الذميين فقال: ... (الرابع) أن لا يبنوا كنيسة ولا يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون أو فتحت عنوة، فإن فتحت صلحا واشترطوا بقاءها جاز وفي اشتراط بنائها قولان (الخامس) أن لا يركبوا الخيل ولا البغال النفيسة بخلاف الحمير (السادس) أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه (السابع) أن تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها (الثامن) أن لا يغشوا المسلمين ولا يأووا جاسوسا (التاسع) أن لا يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلا ونهارا...).

قلت: كل هذه الأقوال هراء وجنون، وكتاب ربنا وسيرة نبينا وسنة الخلفاء الراشدين براء من كل ذلك، ولا شك أن طالب العلم الشرعي إذا تلقى هذا السيل من الأفكار المتطرفة على أنها تشريع رباني يخرج عدوانيا متشددا، فوجب النقد باللغة القاسية في حق تراثنا الفقهي البشري المصنف على ضوء الحروب الصليبية.

يفيدنا كلام ابن عبد البر أن الشعوب الكافرة تقاتل حيث كانت من غير تفرقة بين المسالم والمعادي، ويزعم أن قتل البالغ الممتنع من الإسلام والجزية شريعة، فهل يقبل مسلم عاقل أن يعاملنا غيرنا بنفس المنطق؟

ويدعي ابن جزي في قوانينه الملخصة لمذاهب جماهير الفقهاء أن الذميين يمنعون من بناء كنيسة جديدة، فهل نقبل أن تمنع الدول الغربية المسلمين المهاجرين أو الأقلية من بناء المساجد؟

وافترى على الإسلام أنه يمنع الذمي من ركوب غير الحمار، فهل نرضى أن يمنع المسلمون الأقلية والمهاجرون من ركوب السيارات والطائرات وغيرها؟

وقرر وجوب حرمان المواطن الكتابي من سلوك الطريق المعبدة، فهل يجوز أن نعيب على غيرنا إذا عاملونا بالمثل؟

وأعلن أحقية المسلمين في دخول معابد الكتابيين دون استئذان ليلا أو نهارا، فهل نسمح لغيرنا بدخول مساجدنا دون رضانا؟

وقرّر منع أهل الكتاب من الاختلاط بالمسلمين في الأماكن العامة أو البيوت، فهل نتفهم إجراء مثل هذا يسلكه غيرنا مع إخواننا؟

وأعلن ضرورة تميز أهل الكتاب عن المسلمين في اللباس والمظهر وإلا عوقبوا، فهل نستسيغ مثل ذلك إذا تبنته دولة غربية في حق مواطنيها المسلمين؟

والله إنه الحمق والجنون لا الفقه والفهم في الدين.

وهذا هو المقرر عند فقهائنا، فلا شك نفرّخ الإرهابيين والمتطرفين، ولا جرم تبحث الأقليات المستوطنة لبلاد المسلمين عن حلفاء من الشرق والغرب تحميها وتحررها من العنصرية والعدوان باسم الإسلام العظيم.

إن ما قرره هؤلاء السادة المحترمون بدع منكرة لا يقرها كتاب الله ولا سنة رسوله، بل إن أهل الكتاب كانوا يتمتعون بالمواطنة الكاملة في ظل الحكم النبوي، فكانوا يبنون المعابد ويختلطون بالمسلمين إلى حد المصاهرة، ولم يكونوا ملزمين بثياب أو هيئة خاصة، وكانوا يركبون كل الدواب، ويسلكون الطريق العام المعبد كالمسلمين، وكانت بيوتهم ومعابدهم محترمة معظمة، وكانوا أحرارا في عقائدهم وشعائرهم، فلنعد إلى دستور المدينة لنرى مدى التشويه والتحريف الذي ألحقه الفقهاء بشريعة الإسلام الغراء حقدا على الصليبيين أو إرضاء لأباطرة المسلمين أو تقليدا لأقوال المتقدمين من الصنفين الأولين.

إن نبينا الكريم أنزل وفد نصارى نجران بمسجده الشريف، واستضافهم هناك لأيام، وكان بإمكانه أن يستقبلهم في خيمة أو بيت أحد أصحابه، فهذا منتهى التكريم والاحترام، وسيدنا عمر قبل مقترح نصارى بني تغلب، فقد كانوا أهل نخوة وأنفة، فرفضوا أداء الجزية مقترحين دفع الزكاة كالمسلمين رغم أن الجزية أقل من الزكاة، فأين فهم السادة الفقهاء المحرفين من سيرة النبي وخلفائه المهديين؟