دخل المغرب، من بعد انتخابات 4 شتنبر، فيما يبدو أنه "عزف منفرد" وحالة برودة مستعصية على الفهم. والمتصفح للأدبيات والمتابعات لمجريات الأمور سيلاحظ، بدون كثير عناء أن المهيمن الأساسي،، هو رئاسة الحكومة، ورئاسة الحزب الذي يقودها. والأكثر من ذلك أن الهناك شبه تسليم بهكذا قدر سياسي، سنتجه به الى انتخابات الصيف القادم التشريعية بنوع من التسرنم، الذي يجعل الكثيرين يسلمون بالموجة؟...
السؤال الأول الذي يشغل البال هو: هل التسليم بهذه "الجِبْرية" السياسية، أي الشعور بأننا مجبرين على القبول الكلي بالقادم من الأشياء، هو من صميم القبول بصوت الشعب المغربي الذي أعطى أغلبية لا غبار عليها في انتخابات المحليات لشتنبر الماضي، ويقتضي الموقف الشجاع والنزيه الإقرار بأن العدالة والتنمية استحق فوزه، بدون البحث عن قمل في رؤوس الاخرين، أم تقتضي الديمقراطية فعليا أن تعمل القوى السياسية على "قَدَرِية" أخرى، أي تؤمن بأنها تملك القدرة على فعل شيء ما يخرج الحالة السياسية من سرنمتها؟..
السؤال الثاني: هل وضع رئيس الحكومة، وربما لأول مرة في تاريخ البلاد القاعدة النهائية للانتخابات: من معي فهو مع الشعب والاصلاح ومن يخلفني حتى ولو بإرادة سياسية مستقلة ونوعية وتاريخية، فهو بالضرورة مرتعش أمام التحكم.. والحزب الواحد؟..
إن السؤالين معا، يستوجبان قراءة هادئة، ليس بمعيار المصلحة الشخصية أو الحزبية، بقدر ما تجب مراجعتها من بوابة الانتقال الديموقراطي.
ففي المشهد السياسي اليوم ثلاث قوى كبرى:
القوة التي تعتبر أن اجندة 20 فبراير ما زالت قائمة، وأن الحماس السياسي الحالي والاحتقان الاجتماعي والتراجعات في تطور النظام السياسي بناء على معلنات دستور 2011 كلها عناصر تؤكد بأن الوصفة للخروج من الربيع العربي بربح سياسي معترف به دوليا، لم تكن كافية وأن هناك أشواطا إضافية في اللعبة.
وهذه القوى جزء منها داخل النسق السياسي المغربي، كاليسار الموحد والقوى الراديكالية في محيطه، جزء أساسي، هو العدل والإحسان خارج النسق السياسي وهو يطرح أبعد من السقف الدستوري، أي منازعة شرعية النظام السياسي القائم، أو التي تسعى إلى الانخراط فيه عبر أحزاب إدارية (السلفية الجهادية)..
القوى الثانية، الأحزاب السياسية التي شاركت في إخراج الوصفة المغربية لما بعد الربيع العربي، بدون المرور عبر بوابة 20 فبراير أو أنها حاربتها علانية وصراحة للتخوفات التي صاحبتها (شرعية كانت أو مفتعلة).. أو التي مرت عبر البوابة وساندت أجندتها الاصلاحية ورافقت عنفوانها، ثم خفوتها..
وأخيرا القوى التي لم تصدق أبدا حكاية التغيير، وظلت تنتظر عودة القطط إلى رمادها البارد، لتعيد تركيب المشهد، بدون ظهور واضح في الواجهة، وعبر مقومات أخرى...
هناك ملاحظة أولى حول ما سبق: بالرغم من هذه "التعددية" في الأسماء والمسميات، وفي التكتلات المعبر عن هذه القوي أو تلك، يبدو وكأن المشهد السياسي -الداخل في النسق- مرتبط "بهويات.. وضعياتية"، أي كيانات سياسية تحدد مواقفها، بل هويتها حسب "الوضعيات"! (الأوضاع بلغة عثمان بنعليلا)!!
أي لا يتحكم في اصطفافها الموقف من الأجندة الدستورية أو الموقف من ترتيبات الإصلاح أو المصير النهائي للانتقال الديمقراطي، بقدر ما يرتبط بالمشاركة في التدبير السياسي الناجم عن الانتخابات.
الملاحظة الثانية هي أن المصطلح الاصلاحي بدأ يتقلص إلى مناقشة الكلفة المالية لنهاية الدولة الاجتماعية.
بمعنى آخر فإن الملفات التي تطرح اليوم وتشكل عمق الصراع العلني هو بين من يحافظ على نموذج اجتماعي يضمن جزء من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن طريق الدولة ومن يريد منها أن تخرج نهائيا من اللعبة وتترك الطبقات لحربها الانتحارية ونهايتها المأساوية التي تعدها الليبرالية الدولية المتوحشة؟.. وهو يتم في غفلة من الإصلاح السياسي ومن متابعة أجندة التغيير وتحصين هوية المجتمع التعددية.
لا تبدو الهوية السياسية للكيانات السياسية والمعادلات المتفرعة عن واقع السياسة اليوم، قارة بما يكفي، لكي نغامر بأية قراءة.
هناك نوع من المحاولة في رسم المشهد من فوق قارب يتمايل، القارب السكران في قصيدة أرتير رامبو الشهيرة.. والحال أن عدم استقرار العناصر المحددة للفعل السياسي تجعل المستقبل ضبابيا أكثر، علي الأقل من جهة مجهود الإصلاح ومآلاته.. فالديمقراطية تحتاج إلي موازين قوى rapports de force وليس موازين مقاعدrapport de places كما ينجم عادة عن الهويات الوضعياتية..identite situationnelle: تلم الهوية التي تدور دوما في فلك الهوية الأقوي منها قبل أن تتحلل وتنمحي في استلاب شامل بتعويض الانتماء الفكري بالمصلحة التدبيرية!
يصعب فعلا أن نتصور أننا سنكون قادرين على الوصول بالديمقراطية إلى المرحلة النهائية (التيرمينيس) باختيار.. الأوطوسطوب!
فعلى أي قاعدة سيتم التنافس في انتخابات المغرب التشريعية؟
هذا سؤال لا يبدو أنه مطروح الآن.. اللهم بالنسبة لمن يستعد لميزان المواقع!
(الجَبْرية الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن الإنسان والجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل.
القدرية أن الأحداث بمشيئة البشر أي الإنسان يختار أفعاله كما يريد وهي بعيدة كل البعد عن الجبرية).