تتميز الدولة الحديثة بكونها دولة مؤسسات؛ ولكل مؤسسة من المؤسسات شخصية معنوية ولها مهام وأدوار محددة، ينظمها القانون، بما في ذاك الدولة باعتبارها المؤسسة الأعلى التي يؤطرها قانون أسمى، هو الدستور.
ويكتسب القانون قيمته وأهميته من أجرأته على أرض الواقع، في احترام تام لنصه وروحه. وهذا الاحترام للقانون هو الذي يكسب المؤسسات مصداقيتها ويمنحها قيمة رمزية وفعلية، وبالتالي قوة وفعالية.
والعكس صحيح؛ فكل إخلال بالواجب ينعكس سلبا على سمعة المؤسسة، فيُضْعفها؛ ذلك أن المصداقية ليست قيمة أصلية في المؤسسة؛ بل هي مكتسبة. إنها نتاج لسيرورة مطبوعة بقيم الشفافية والنزاهة والموضوعية. و ينطبق هذا الأمر على كل المؤسسات، كيفما كان شأنها (بل، وينطبق أيضا على الأشخاص). فمؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، بما فيه المجتمع المدني والسياسي والثقافي والرياضي...، تحتاج إلى شيء اسمه المصداقية crédibilité)).
ما يهمني، هنا، هي المؤسسات ذات الطابع التمثيلي، أي المؤسسات المنتخبة، وتحديدا، المؤسسات التي تمثل المجتمع (أي السكان ومصالحهم)، محليا أو جهويا أو وطنيا، داخل منظومة مؤسساتية على رأسها الدولة كأسمى مؤسسة في المجتمع. فالمؤسسات المنتخبة هي إذن وسيط بين المجتمع والدولة؛ ومن هنا أهميتها.
وبما أن هذه المؤسسات الوسيطة هي التي تجسد مستوى صلابة أو هشاشة البناء الديمقراطي، فإن عافيتها من عافية الدولة والمجتمع وسقمها من سقمهما معا. والمسؤول الأول عن الوضع الذي توجد عليه المؤسسات التمثيلية، سواء من حيث القوة أو الضعف، هي الدولة باعتبارها، دستوريا، المؤسسة الأعلى في المجتمع.
وفي تجربتنا المغربية، لعبت الدولة دورا كبيرا في صناعة مؤسسات وسيطة مغشوشة ونخب سياسية فاسدة. فتاريخ الإدارة المغربية مع الانتخابات غير مشرف تماما؛ إذ عملت الدولة على إفسادالحياة السياسية ببلادنا منذ السنوات الأولى للاستقلال؛ وذلك بتأثيث المشهد السياسي ب"كيانات" سياسية، تعرف في القاموس السياسي المغربي ب"الأحزاب الإدارية"، أي تلك التي صنعتها الإدارة ووفرت لها كل الإمكانيات المادية والبشرية وكونت منها قوة سياسية على مستوى البرلمان والجماعات، وذلك باستعمال كل أساليب الغش والتزوير، العلني منها والخفي. وهو ما أفسد قواعد اللعبة السياسية وأخَّر انطلاقة البناء الديمقراطي لدولتنا، الشيء الذي جعل الفساد، بكل أنواعه، يستشري في دواليب الدولة وفي ثنايا المجتمع.
لقد كانت كل التجارب الانتخابية - التي عرفها المغرب منذ مطلع الستينات إلى نهاية التسعينات من القرن الماضي- موضوع طعن سياسي من قبل الأحزاب الوطنية الديمقراطية. فحتى الانتخابات التشريعية لسنة 1997، التي أتت بما اصطلح على تسميته بحكومة التناوب التوافقي بقيادة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، لم تسلم من الطعن في نتائجها من طرف أحزاب الكتلة الديمقراطية نفسها التي ستشكل النواة الصلبة لحكومة التناوب.
وتعتبر الانتخابات التشريعية لسنة 2002، التي أشرفت عليها حكومة اليوسفي، أول انتخابات لم يُطعن فيها سياسيا. وسيستمر الأمر على هذا الحال بالنسبة للاستحقاقات الموالية (الجماعية والتشريعية) إلى حدود 2011.
بالطبع، غياب الطعن السياسي لا يعني أن العملية كانت دائما سليمة مائة في المائة. فكثيرا ما تحدث تجاوزات وتسجل خروقات هنا وهناك، "أبطالها" إما أعوان السلطة أو المرشحون أو... ويكون هذا النوع من المخالفات موضوع طعن قضائي لدى المحاكم الإدارية، يلجأ إليه، بشكل فردي، المرشحون المتضررون من المخالفات المسجلة في دوائرهم الانتخابية. فالطعن القضائي يتعلق، إذن، بالشق الإجرائي فقط، ويهدف إلى تصحيح بعض الأخطاء المقصودة أو الغير مقصودة (وحالات الطعن من هذا القبيل قد يقل عددها وقد يكثر).
ومن هنا، يتضح البون الشاسع بين الطعن السياسي والطعن القضائي. فالطعن السياسي يهم العملية الانتخابية برمتها. وهو ليس طعنا في النتائج فقط وإنما أيضا في الإجراءات التي أدت إلى تلك النتائج. والطعن في الإجراءات، هو طعن في الجهة المشرفة على الانتخابات والتي لم تضمن لهذه الأخيرة ما يكفي من ضمانة النزاهة والشفافية. وفي غياب هذه الضمانة، تعطي الانتخابات نتائج لا تعبر عن الوضع السياسي الحقيقي؛ بل تنتج خارطة سياسية مغشوشة ومُشَوِّهة للمشهد السياسي. فالطعن السياسي هو، إذن، اسم على مسمى. فهو موقف سياسي لتنظيم (أو تنظيمات) سياسي(ة) يـرفض (أو ترفض)، سياسيا، تزكية العملية الانتخابية بمجرياتها ونتائجها. وهذه هي الدلالة الأساسية للطعن السياسي.
وكنا نعتقد أن بلادنا قد قطعت مع الممارسات التي كانت تدفع الأحزاب الوطنية إلى الطعن السياسي في الانتخابات. لكن، مع الأسف، سجلنا مع الانتخابات الجماعية والجهوية لـ 4 شتنبر 2015 (وهي أول استحقاق تشرف عليه حكومة بنكيران) العودة إلى بعض الممارسات التي ذَكَّرتنا بأجواء الانتخابات في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
وإذا كان مفهوما أن تلجأ بعض الأحزاب إلى ممارسات دأبت عليها منذ نشأتها، فإنه غير مستساغ إطلاقا أن تتملص من مسؤوليتها الجهات المكلفة بحماية الانتخابات من الفساد والمفسدين. لقد تأكد، من خلال العديد من التقارير الصحفية، أن عملية الإفساد لم تشكل حالات معزولة، بل كانت (أو كادت أن تكون) عامة.
ولم تكن التقارير التي توصل بها المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي من مختلف الأقاليم تختلف، في شكلها ومضمونها، عما عاشه هذا الإقليم أو ذاك. وقد سجلت كل التقارير الحياد السلبي للسلطة (بكل أصنافها وأطيافها) أمام ممارسات عادت بنا إلى الماضي وأعادت عقارب الزمان الديمقراطي إلى الوراء.وهو ما حمل الاتحاد الاشتراكي على الطعن السياسي في الانتخابات المذكورة.
وبهذا الطعن، يكون حزب القوات الشعبية قد تحمل مسؤوليته وقام بواجبه في فضح (بالحجة والبرهان) الممارسات التي تريد العودة بنا إلى ماض غير مأسوف عليه؛ وهي ممارسات مسيئة لتجربتنا الديمقراطية، وبالتالي لمؤسساتنا التمثيلية، ومن ثم لوطننا.
وبغض النظر عن النتائج وعن الخريطة السياسية الحالية، يبقى السؤال العريض والمرير هو: من هي الجهة أو الجهات التي لها مصلحة في التحكم في المشهد السياسي من خلال إفساد قواعد اللعبة الديمقراطية، ضدا على الاختيار الاستراتيجي للدولة وضدا على المصلحة العليا للبلاد؟ فالحياد السلبي للإدارة في الانتخابات الأخيرة (وهي المشرف الفعلي على هذه الانتخابات)، من شأنه أن يقلق كل مهتم وكل متتبع، لأنه يوحي بوجود إرادة سياسية معاكسة للتطور الديمقراطي الحقيقي ومناهضة لروح الدستور الجديد والتوجه الرسمي للدولة، المعبر عنه في خطاب ملكي قبل الانتخابات.
ويبدو، من خلال مجريات الأحداث، أن الصورة التي تُقدَّم للجهات العليا في الدولة، لا تمت للواقع بصلة؛ وهو ما يشكل نوعا من الخيانة وضربا من التضليل والتزييف...الذي قد يكون من تبعاته الوقوع في تناقض صارخ بين الواقع والخطاب (مما يمس بمصداقية هذا الأخير). ويحضرني، بالمناسبة، ما ورد في رسالة للعاهل السعودي بعث بها إلى وزيره في الحج، يهنئه على نجاح موسم هذا العام، في حين يعلم العالم أجمع أنه عرف أسوأ كارثة تقع في موسم الحج (مئات القتلى وقرابة ألف من المصابين). فبماذا يمكن أن نفسر هذا الأمر؟؟؟...