إن التعاطي مع هذه الإشكالية يستدعي بالضرورة إعمال قراءة نقدية وتوصيف لمسار ممارسة السياسة في المغرب منذ 1956، أي تعقب الكيفية التي مارس بها الفاعل السياسي السياسة سواء كان حزبا أو نظاما ماسكا بخيوط إدارة السياسة في مؤسسات الدولة. هذا النوع من القراءة والتوصيف والتعقب يقتضي الوقوف على عناوين المنجز في السياسية منذ الاستقلال إلى اليوم؟ إذن كيف كانت المدخلات؟ وما هي تداعيات المخرجات؟ وما هو السقف الذي لم يستطيع الفاعل السياسي تجاوزه في ممارسته السياسية رغم كلفة التضحيات؟ هذه التساؤلات تستمد شرعيتها من كون ممارسة السياسة في المغرب تميزت بكونها تدور في مربع النظام وليس خارجه. وهكذا تمت العملية عن قصد وإصرار، أي هذا هو الوعي الذي ساد في مرحلة التأسيس لممارسة السياسة عند المطالبة بالاستقلال، أي الاحتماء بشرعية النظام رغم ضعفه لكونه كان تابعا لسلطة الحماية. وهذا الوعي لا يزال هو السائد حاليا أي السياسة تمارس في مربع النظام.
وقبل الدخول في بعض التفاصيل لتفسير ما طبع السياسة في مغربنا الحديث، لابد من التساؤل كذلك، هل كان الفاعل السياسي يمارس السياسة كمشروع أم كطموحات ورغبات؟ ولكي نستقرئ ذلك، تجب الإشارة أولا أن مكونات الحركة الوطنية التي قادت النضال الوطني من أجل الاستقلال، هل كانت تملك مشروعا سياسيا لما بعد الاستقلال؟
فبالعودة إلى ترتيبات تلك المرحلة وإلى وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، نجدها في مجملها تضمنت مطلب الاستقلال وطموح بناء نظام سياسي شوري. غير أن أحلام وطموحات هذه الحركة الوطنية بعد تحقيق هذا المطلب بعد توقيع اتفاقية إكس ليبان، اصطدمت بواقع عنيد، إذ واجهت ما سمي في الثقافة السياسية أنئد بتغذية الاستعمار الجديد للرجعية المحافظة وبقايا الإقطاع لمقاومة أي مد تحرري. وهذا ما تم الترتيب له سواء أثناء تشكيل الحكومة الأولى وما بعدها، حيث دخل المغرب في صراع حاد على من يملك شرعية السلطة. واحتد الصراع بين قوى داخل القصر من جهة والجناح الثوري في الحركة الوطنية ومن جهة ثانية مع فلول الاقطاع والاستعمار الجديد. هذا الصراع على من يحكم المغرب أظهرت بعض المؤشرات على أن الجناح الثوري داخل الحركة الوطنية تمكن بعد توافقات من تشكيل حكومة وطنية برئاسة عبد الله إبراهيم. هذه الحكومة حاولت ممارسة السياسة بمشروع، تمثل في إطلاق أوراش كبرى في مجال التأميم والإصلاح الزراعي والتصنيع والتكوين في أفق مغربة الإدارة الوطنية. هذا الفعل السياسي كمشروع تم إجهاضه بعد سنتين، بسبب اختلاق العديد من المقاومات، مما أدخل البلاد في نفق مظلم مفتوح على كل الاحتمالات، وإقصاء نخبة وطنية من استكمال بناء المغرب المستقل الجديد.
ماذا وقع إذن، تعددت الجراحات والانتهاكات الجسيمة للحريات وصلت إلى حد الإعدامات والاغتيالات والتآمر، ودخل المغرب في مرحلة للفعل السياسي تميزت في أدبيات تلك المرحلة بهيمنة النظام على كل مؤسسات الدولة وتجديد التحالف مباشرة مع الإقطاع وفلول بقايا الاستعمار مغاربة كانوا أم فرنسيين. ولترضية الخارج تم العمل على نهج ديمقراطية الواجهة من خلال الدساتير الممنوحة وتشكيل الأحزاب في ردهات وزارة الداخلية، وعوض الاصلاح الزراعي وزعت الأراضي على الاقطاعيين، المستفيد الأول من سياسة السدود، وعوض التأهيل وإنعاش الشغل استبدل بما يسمى برنامج الانعاش الوطني. وكانت حصيلة هذه السياسة تطبيق تدابير رجعية تحكمية باسم اللبرالية كان من نتائجها انتفاضة الشارع في 23 مارس 1965، وإعلان حالة الاستثناء واغتيال رمز التجديد الوطني الشهيد المهدي بنبركة. وبالنتيجة تم هدر بناء الدولة الوطنية الديمقراطية وتحقيق التنمية واستكمال الوحدة الترابية.
وبعد أن وجد النظام نفسه أمام الباب المسدود بعد فشل محاولتين انقلابيتين عمل على إطلاق دينامية جديدة رفع فيها شعار استكمال الوحدة الترابية واستعاد العمل المؤسساتي برفع حالة الاستثناء وبداية العمل بالمسلسل الديمقراطي، ولكن في المقابل تم إجهاض أحلام حركات المد الشبابي الماركسي اللينيني، وتصفية الجناح الثوري داخل الحركة الاتحادية بالاعتقالات والمحاكمات والاعدامات والملاحقات والتغريب.
وأمام هذا الوضع قام جزء من الأطر داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بتقييم الوضع السياسي. هذا التقييم عملوا فيه على تجديد رؤيتهم للعمل السياسي و للاختيارات السياسية والاستراتيجية. والمدخل كان هو تأسيس حزب جديد هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي اطلق استراتيجية النضال الديمقراطي في ارتباط مع النضال التحريري من أجل استكمال الوحدة الترابية وتدقيق وتوضيح الاختيار الاشتراكي الذي يمكن أن يتصالح مع انتظارات الشعب المغربي.
هذا النفس الإصلاحي في البناء الديمقراطي تم الالتفاف عليه من أجل إجهاضه بنفس الوسائل التي كانت وراء إجهاض المشروع الوطني لحكومة عبد الله إبراهيم: فتمت فبركة الأحزاب الإدارية وتزييف الانتخابات واصطناع الأغلبيات، وتعميق سياسة الريع واحتواء العديد من الأطر التي كانت محسوبة على اليسار، وتفقير الجماهير الشعبية. وفي المحصلة السياسية جاء الإضراب العام كجواب عن اليأس في 20 يونيو 1981، وبداية الشروع في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي وبالتالي انقضاض المؤسسات المالية على المدخرات الوطنية، وشن حملة شرسة على القوى التقدمية. وفي الأخير اتضح بالملموس أن النظام فشل للمرة الثانية في الوفاء بوعوده في بناء الديمقراطية الحقيقية، بل ما قام به هو تمييع السياسة واختراق الأحزاب الوطنية وخلق ورعاية قوى ظلامية لنقل الصراع من مجاله السياسي الحقيقي إلى الهامش الأخلاقي.
هكذا أضحت السياسة وممارستها بؤسها ينفر الشباب من دخول معتركها، إضافة نجاح النظام في تشكيل ذهنية مجتمعية مبنية على الخوف والولاء لمنظومة المخزن وثقافته. وفي ظل هذه الحالة غير الطبيعية في الممارسة السياسية، عملت القوى الوطنية الديمقراطية على محاولة لململة السياسية من جديد في بداية التسعينات من القرن الماضي، وقامت في الواجهة البرلمانية بتقديم ملتمس الرقابة، وفي الواجهة الاجتماعية بإعلان الاضراب العام في 14 دجنبر 1990، وإطلاق دينامية تأسيس الكتلة الديمقراطية المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري. هذا المسلسل أدى إلى الوصول إلى ما سمى بالتناوب التوافقي الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال. حيث تم إضعاف الاتحاد الاشتراكي كأكبر حزب سياسي وطني تقدمي، من خلال الانسحابات التي عرفها في مؤتمره السادس، ثم جاء الدور لزعزعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، إذ تناسلت من رحمها ثلاث نقابات، وظهور أقلام صحافية رفعت معاولها لتبخيس السياسة والأحزاب السياسية والدعوة بطريقة ضمنية إلى الاصطفاف إلى جانب صناع القرار السياسي الجدد أي المخزن الجديد الذي هيمن من جديد على السياسة بخلق مجموعة من المؤسسات الموازية والالتفاف على الأوراش الكبرى التي بدأت مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي بعد تعطيل المنهجية الديمقراطية. ورجع المغرب من جديد إلى النظرة الأحادية للسياسة بإضعاف الأحزاب والمؤسسات.
بعد هذا المرور السريع لحقب مجال العمل بالسياسة، وتعقب بعض أهم تفاصيلها السياسية، نخلص إلى خلاصة مركزية تتمثل في أن الإمكان الذي مورست فيه السياسة كان مبنيا على: التوافق الذي سرعان ما يتم الاجهاز عليه وبالتالي تعطيله، وعلى صنع نخب الريع السياسي وتهجين السياسة والسياسيين. وفي المحصلة الوصول إلى بؤس السياسة بما تؤشر عليه من مد نكوصي. غير أن هذا النكوص تمت لملمته بمحاولة استعادة المبادرة السياسية من خلال حركة 20 فبراير التي عملت على خلق رجة في الحياة السياسة من جديد، لكن سقفها اصطدم بالمقاومة الشرسة وبالتآمر على صدق نضاليتها من طرف القوى الظلامية والمخزنية التي قامت بكل شيء من أجل الحد من استمرار هذا المد الشبابي الجماهيري الثوري.. وبالنهاية فإن هذه الحركة يحسب لها فرض مراجعة الدستور في 2011.
أما بعد، فهل هناك من ممكنات وبدائل لتجاوز هذا البؤس في السياسة واستعادة قيمها النبيلة بمواصفات جديدة، في تقديري الخاص هناك بعض المداخل:
-القطع مع الثقافة المخزنية، والعمل على صيانة استقلالية القرار السياسي للفاعل الحزبي، وجعل العمل السياسي مبني على تعاقدات ديمقراطية واضحة ومتكافئة؛
- التأسيس لثقافة سياسية ديمقراطية جديدة مبنية على تخليق الحياة السياسية، ورد الاعتبار للسياسة بالمعنى النبيل كواجهة للصراع المتكافئ على الاختيارات البرنامجية والتداول على السلطة، وليس العمل وفق اختيارات ليبرالية مرسومة سلفا من طرف الدولة؛
- تنظيم مناظرة وطنية من طرف القوى السياسية الوطنية الديمقراطية التقدمية؛ لدشين نقاش وطني برؤية جديدة حول مستقبل السياسة وأي نموذج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية صالح لمغرب اليوم؛
- عودة الثقافة والفكر والمثقف بأطره المرجعية النقدية إلى الفضاء العام، الذي تم الاستقواء عليه بثقافة جامدة؛
- العمل على كسب رهان استعادة ثقة المجتمع في المدرسة العمومية كركيزة لأي تنمية حقيقية وشاملة؛
- استعادة المبادرة للفاعل السياسي الديمقراطي، عوض تبعيته للنظام، من أجل تقوية المؤسسات الديمقراطية وتدعيم الحرية والتضامن والعدالة الاجتماعية؛
- على القوى الديمقراطية السياسية الطامحة للتغيير السياسي، الالتحام والانخراط في الحركات الاحتجاجية لتحصين المكتسبات وللدفاع عن حقوق الانسان في إطار مجتمع الديمقراطية والمواطنة والعدالة.