السبت 23 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

الحسين بوخرطة: أي تطورات تعاقدية جديدة لترسيخ الخصوصية الديمقراطية المغربية؟

الحسين بوخرطة: أي تطورات تعاقدية جديدة لترسيخ الخصوصية الديمقراطية المغربية؟

موازاة مع ما تعرفه منطقة الشرق الأوسط من تطورات مقلقة، ومن أفعال وردود أفعال لا يمكن أن يتمخض عنها الاطمئنان والأمل في تحقيق الأمان والاستقرار في المستقبل القريب، يعيش المغرب تفاعلات تسائل المتتبعين في شأن مدى إمكانية تحويل طبيعتها إلى سند لتثبيت الخصوصية السياسية المغربية. وهنا عندما يتم الحديث عن الخصوصية المغربية، نعني بذلك أن بلادنا تتوفر على مسار سياسي واضح المعالم نسبيا، وبقنوات وأوعية وآليات في تطور مستمر منذ الاستقلال. إنه المسار الذي يجب أن يدفع المتتبعين إلى إعادة طرح سؤال قيادة التغيير السياسي في البلاد في سياق الحاجة الاستعجالية إلى المرور إلى منعطف سياسي جديد، باتجاه معلوم ابتداء من الاستحقاقات التشريعية المقبلة، يضمن ارتقاء الديمقراطية التمثيلية إلى آلية قوية ودائمة لتثبيت الترابط ما بين قوة النظام السياسي وقوة الدولة المؤسساتية. إن هذا المآل لم يعد يفترض الحديث عن وجود بدائل أخرى، ولا أي نوع من الأفكار التي قد يكون وراءها مصالح ذاتية لا علاقة لها بمستقبل الدولة المغربية بكل مكوناتها السياسية والمجتمعية.

نقول هذا لأننا متيقنين أن السياسيين والمثقفين ببلادنا واعون أتم الوعي بالتأثيرات القوية للتطورات الإيديولوجية التي عرفها الغرب، تطورات يتم الحديث من خلالها عن ولادة الواحد المادي بأبعاد ثقافية. فمنذ القطيعة التي أحدثها هذا الأخير مع الواحد التيولوجي، عرف تطورات سريعة جعلت العالم يعيش ثورات علمية وتكنولوجية في ظرف ما يقارب ثلاث عقود فقط (ابتداء من التسعينات)، تطورات لم تعرفها الإنسانية في كل تاريخ كينونتها على سطح الأرض. إنها الثورات المذهلة التي توجت بتحويل التأثير والتفاعل الثقافي كونيا إلى "عواصف" قوية لا يمكن مقاومتها. إنها أمواج ما يسمى بالحداثة وما بعدها، أمواج أعتقد أن روادها يتوفرون على مقومات حل رموزها، وبالتالي لا يمكن التسليم بكون ما تحدثه هزاتها المتكررة من ارتباك في المعتقدات قد يكون مجهول العواقب.

لقد تطورت الحياة في مظاهرها المختلفة، وساد نوع من الخطاب في شأن محاربة الفقر والتطرف، وتطورت قنوات نشر أفكار الواحد المادي بطبيعة لم نلمس من خلالها الدعاية المباشرة لا للنزعات التيولوجية، ولا العنصرية ولا الطبقية،.... في نفس الوقت نلمس مع مرور السنوات نوع من عدم القدرة أو العجز عن المواكبة والاستفادة من التطورات المحققة عند العديد الأفراد والجماعات خصوصا في دول الجنوب، وبالتالي ولادة نوع من النفور في النفوس ونوع من الميول إلى البحث عن الحماية التي لا يمكن أن تجدها هذه الفئات إلا في التراث والعودة إلى الوراء.

إن هذا السياق المقلق دوليا وجهويا هو الذي يجعلنا دائما نفكر في الوطن وفي خصوصيته التي بناها المغاربة بسواعدهم إلى جانب مؤسساتهم الرسمية وغير الرسمية. إنه التفكير في خلق مقومات جديدة للتعاقد السياسي المنتج والفعال على أساس التعدد المقوي للديمقراطية التمثيلية بمستوياتها المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية. فاستراتيجيات الكبار مغربيا، أي المتمكنين بصورة أو بأخرى من المشاركة في صياغة أو بلورة القرارات المصيرية وتفعيلها، لا يمكن أن تكون غاياتها الميول إلى خيارات لا تضمن الاندماج السياسي لكل القوي المجتمعية والطاقات البشرية التي تزخر بها البلاد.

إن ما أثارنا في سنة 2015 هو اضطرار قيدوم السياسيين والحقوقيين بالمغرب السيد عبد الرحمان اليوسفي إلى الخروج عن صمته والتحرك سياسيا هنا وهناك. في اعتقادي، هذه التحركات يجب أن نتأملها في سياقها ارتباطا بتطورات الفترة السياسية لما بعد 1990. لقد سهر هذا الرجل بنفسه عن تنظيم ذكرى اختطاف عريس الشهداء المهدي بن بركة، وحرص على الحضور في مراسيم دفن المقاوم الجزائري أيت احمد وبعث رسائل سياسية في شأن بناء الوحدة المغاربية...

لقد تتبعنا في أواخر سنة 2015 الموقف المغربي أمميا في شأن قضية "القبايل" الجزائرية. وتتبعنا تطور الحركة الأمازيغية وما أثاره حزب الأصالة والمعاصرة من مواقف في شأنها وهو يقترب من عقد مؤتمره الاستثنائي. وتتبعنا كذلك تحرك محمد اليازغي وهو ينظم ذكرى اغتيال عمر بن جلون. وساد كذلك في الأوساط الإعلامية التوجه الاشتراكي لحزب الجرار واستثماره الضخم في المجال الإعلامي. وتتبعنا كذلك التساؤلات في شأن التوازنات المستقبلية ومقومات التعاقد السياسي الضامن للاستمرار في البناء المؤسساتي باستحضار قوة التيارات الإسلامية بشقيها المشارك في تدبير الشأن العام (حزب المصباح) والمعارض (حركة العدل والإحسان وبعض التيارات السلفية والخلايا النائمة).......

وفي الختام، لا يمكن أن لا نذكر بما قلناه أعلاه في شأن الحاجة في تقوية الخصوصية التعاقدية للحياة السياسية المغربية، نذكر بذلك ونستحضر عددا من التجارب السياسية المعاصرة كتجربة بن علي التونسية، وتجربة تونس ما بعد الثورة، والأوضاع في البلدين الشقيقين العراق واليمن، وتجربة الأسد البعثية القومية السورية، وتجربة مصر ما بعد مبارك، وتجربة بوتين الروسية، والتجربة التركية والإيرانية، والمتاعب الجديدة للنظام السعودي،..... كل هذه التجارب هي مليئة بالدروس والعبر، ولا يمكن لنظامنا السياسي المتقدم إقليميا وجنوبيا إلا أن يستفيد منها نظرا لما حققه من تراكمات هامة جدا في كل المجالات، ونظرا للتفاعل البناء والمستمر ما بين قواه السياسية والمجتمعية.

وهنا، لا بد أن نشير أن من يدفع بفكرة "موت السياسة" قد يضع نفسه في خانة الاستسلام والميل لإعادة إنتاج العزلة ليعطي الانطباع وكأن الاستقلال الذي حققه المقاومون لم يكن إلا موعدا تاريخيا لإنتاج العزلة عن الغرب. اليوم، السياسة تحتاج إلى رجال لا ينبهرون بما أنتجه الغرب، بل قادرون على محاورته، وحريصون على التموقع في مقدمات مشاريعه وليس في نتائجها. في نفس الوقت من يدعونا لنكون خارج خطاب هذا الأخير للتحكم في مواطنينا يكون بذلك يقودنا إلى خارج التاريخ، والسقوط في عبودية لا تاريخ لها.

إن المغرب، ونتيجة للتراكمات السياسية التي حققها، ينتظر منه أن يكون على موعد حدوث تطورات تعاقدية جديدة بمقومات ترسخ خصوصيته الديمقراطية والثقافية، وتجعل منه منطقة جغرافية نموذجية قادرة على تحقيق الامتداد التنموي من الشمال إلى الجنوب.