الثلاثاء 16 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد منير: الأسرة والمجتمع .. مقاربة تربوية

محمد منير: الأسرة والمجتمع .. مقاربة تربوية

يقوم المجتمع على دعامات أساسية تربط بينها عوامل التربية الدينية والإجتماعية والثقافية والعلمية بما لها من تجليات على تقدم الأمم وترسيخ قدمها في طلائع الشعوب المتحضرة والقائدة، وتأتي التربية لتؤكد أبعادها العميقة للمعرفة وإدراك المناهج التعليمية في مراحلها المتقدمة لمعالجة المريض منها واجتثاث الفاسد، سعيا لتحسين الجودة والتعاطي معها بروح الجدية والتنافسية للريادة والتفوق، ولتحقيق هذه الغايات لابد من رؤيا شمولية تستحضر أهم العناصر المكونة لهذه المعادلة الكونية المنسجمة، وفي مقدمتها الإنسان الذكر منه والأنثى راشدين وقاصرين بحكم الإرتباطات الأسرية الإجتماعية الوثيقة.

وقد كان هذا المسعى ضروري للحياة والألفة فانبثقت عنه فكرة "المدينة الفاضلة" للفيلسوف اليوناني "أفلاطون" لتأسيس مجتمع تظله العدالة والمساواة والفضيلة لكن فلسفته كانت بعيدة عن طبيعة الإنسان، ثم جاء بعده تلميذه "أرسطو" فكان أكثر واقعيا عن أستاذه وأعطى اهتماما أوسع للحياة الإجتماعية في كتابه "السياسة"، وتأسس بهذا الدافع الإنساني القوي علم الإجتماع على يد الفلاسفة والمفكرين والتربويين كل بمنظوره العقدي والبيئي.

ومع ظهور الإسلام انتقل المشعل العلمي إلى المسلمين وكان القرآن والسنة النبوية الملهمين الأساسين لهذه الغاية، وهما زاخرين بما يحرض على التفكير في الكون والإنسان والمعرفة وانطلاق العلماء في البحث، وأشهرهم ابن خلدون إذ ضمن كتابه "المقدمة" دراسة عن المجتمعات أو ما أسماه "علم العمران" وقبله "الفارابي" في كتاب "السياسة المدنية" وغيرهم كثير، حيث كان لهم الأثر الكبير في بلورة مفهوم المجتمع والأسرة والتربية.

فالأسرة هي القلب النابض للأمم وهي الشريان المغذي لنهضتها، وهي الخلية الأولى للإرتباط الإنساني بأمور حياته وفي تكوين شخصيته وثقافاته وسلوكه بالإندماج الإجتماعي السلس والمساهمة الفعالة في تقدم وطنه، فالتربية تبدأ من الأسرة كما يرى الإمام الغزالي (الطفل أمانة في عنق والديه وعلى يديهما تتشكل شخصيته، فعلى الوالد أن يؤدب ابنه ويهذبه ويتعهده بالرعاية والتعليم ويعلمه آداب العيش والسلوك القويم وحسن معاملة الناس، وينشئه تنشئة خشنة وغير مدللة).

الأسرة والتحديات المجتمعية..

الأسرة هي الدِّرع الحصينة كما وصفها "ابن منظور" في "لسان العرب" وهي الرابطة الإجتماعية المكونة من الزوج والزوجة والأبناء قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساء)1 النساء، عن عبد اللّه بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلَم يقول: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ ، ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ...) إن الإستهلاك في مجتمعاتنا العربية لكل وارد وشارد من شتى الميولات الشرقىة والغربية أحالها إلى أكبر ناهم شره استنزف كل توجهاتها وخياراتها المعنوية والروحية ومسخ هويتها الإنسانية، والأبناء هم أكبر المتضررين إذا أسقط حائط الأسرة المنيع ، فالأبوان يساند أحدهما الآخر ويسد أحدهما ثغرات الآخر ويكمل ما نقص منه قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) ولتأمين حاجيات الأسرة تربويا وتعليميا لبناء محكم ورصين وجب ترتيب أولويات أعمالها اليومية لكيلا يترك الحبل على الغارب.

فهل استطاعت مؤسسة الأسرة المحافظة على مكانتها في المجتمع؟

إذا تتبعنا عن كثب التحديات العديدة التي تعترض الأسرة في مواكبتها للأبناء فإننا سنلاحظ أنها لازالت ناجحة إلى حد ما في دورها لبعض الأمور المادية وانسحبت من القضايا ذات الطابع التربوي، والتحولات الحديثة للعولمة والتكنولوجيا وخصوصا الإعلام والتواصل خلق طفرة نوعية على مستوى الثورة المعلوماتية، لم يستطع أكثر الآباء مواكبتها واللحاق بها ما أحدث لهم إحباطا، واستولت هذه المظاهر الجديدة على الدور الأساسي للوالدين وهي التربية والتعليم، فأصبحت المهمة أكثر تعقيدا واستفحالا وأكثر عبئا ، خاصة عندما اتسعت الفجوة الزمنية والهوة الفكرية بينهم وبين أبنائهم، فشهدنا اختراقا غريبا للمفهوم الأسري العربي أخلاقيا بالدرجة الأولى ونزوعا إلى اللامبالاة والتحلل من المسؤولية عند الأولياء وإشباع الرغبات عند الأبناء، وهذا التحول يشبه إلى حد ما عصر التنوير والثورة الفرنسية في الفترة من سنة 1789م حيث عاشت أوربا على هذا الإيقاع من التفكك الأسري، والذي نحى بها إلى ما نراه الآن من انحلال خلقي وانحراف تام أصبحت له قوانين وحقوق فنتج عنه مثلا ظاهرة الأطفال غير الشرعيين بـ 53 في المائة في فرنسا سنة 1997م حسب التقرير السنوي للدراسات بباريس عدا مشاكل الإجهاض والشذوذ والأمراض ، واتخذت هذه المظاهر شكلا طبيعيا في المجتمع بالتطبيع معه بل صارت مؤسسة الزواج والأسرة تقليدا متجاوزا بل شاذا، وقام المجتمع الغربي عموما على قاعدة إلغاء الدين وقيم الفطرة السليمة ، وقد عبر عنه المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان بقوله : (إن المجتمع الغربي أول مجتمع يعيش الإلحاد عمليا).