السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: أن تبقى فرنسا كما كانت..!!

دلال البزري: أن تبقى فرنسا كما كانت..!!

تتذكر الأجهزة الأمنية الفرنسية اليوم منظِّر السلفية المجاهدة، الفرنسي فابيان كلان، الذي اتهم عام 2000، أي منذ خمسة عشر عاماً، بتكوين "جهاديين". فتمرّر الآن لصحافتها الاستقصائية معلومات عن الخلية التي ألّفها في مدينة تولوز، هو وأخوه الأصغر جان ميشال، لتجنيد مجاهدين آخرين، إلى العراق، أولا، ثم إلى سوريا؛ ومن بينهم، محمد مراح، مرتكب جريمة تولوز ومونتوبان الإرهابية عام 2012. وتروي قصة سجنه وخروجه طليقاً، قبل انتهاء فترة الخمس سنوات من عقوبته... وهذه ليست أول رواية تمرّرها "المصادر الخاصة" عن إرهابيين تساهلت معهم فرنسا، فأعطت لهم حرية العبث بحياة الفرنسيين. بل تذهب الأقوال أبعد من ذلك، وتذكِّر بأن مقتلة "شارلي إيبدو"، التي لم يمرّ عليها أكثر من عام، لم تعقبها أي إجراءات أمنية جدية، ولا توقيفات... متندِّرة، بأنه كلما كُشف عن اسم إرهابي، تبين للجميع بأنه كان له ملف جنائي لدى الشرطة والقضاء.

مجمل القول أن فرنسا تعي اليوم بأنها تساهلت أمنياً، وبعضهم يضع هذا التساهل في خانة "الإحساس بالذنب" تجاه المستعمَرين السابقين، الخزان البشري للإرهاب، الذين لجأوا إلى أراضيها هربا من بؤس بلادهم... يتوق الفرنسيون الآن إلى التحرر من هذا الإحساس، والقبض على المسألة الأمنية بيد من حديد. فكانت استجابة رئيسهم ورئيس وزرائهم، أبعد ما أملوا، وتحقّق الإجماع الفرنسي بين اليمين واليسار على أن يرتدوا ألبسة المحاربين، ويعلنوا حالة الطوارئ، وإجراءات أمنية استثنائية، بدأت أصواتٌ خجولة تتمتم بأنها سوف تهدِّد الحريات. وهم بذلك على حق، لكن الفرنسيين اليوم يحلمون بالأمان، يستجيبون للعسْكرة، ويقبلون بالتفريط بجزء من حقوقهم الفردية والمدنية في سياق الحرب التي اعتزموا خوضها داخل بلادهم، بعدما كانوا يكتفون بغمارها خارجها.

من هذه الناحية، فرنسا ستتغير. وسوف تتلوث ديمقراطيتها بالمرض الأمني الأمريكي، لما بعد 11 سبتمبر، مرض "الباتريوت آكت" ومعسكر "غوانتانامو"، وحقوق التنصت والتفتيش والاعتقال الخ. هذا ليس الوجه الوحيد الذي سيتغير في فرنسا. المقتلة الأخيرة فجرّت مشاعر وطنية فرنسية، نوعاً من الحب للوطن، فيه أشكال راقية من التعبير، والرفْعة، وبرودة الأعصاب. ولكنه يختزن أيضاً، من دون أن يخفيه تماماً، انبعاثاً لنوع معين من الهويات الوطنية، التي تقترب كثيرا، في إحالاتها ودلالاتها، من طروحات اليمين المتطرف المتمثل في أدبيات حزب "الجبهة الوطنية" ورئيسته مارين لوبن. الهوية الفرنسية السابقة، القائمة على إرث الأنوار، يجب توديعها الآن، مع الأمل بلقائها بعد هزيمة الإرهاب، مجرد أمل.

ولكن ليس هذا فقط: تلك المعاني الأخرى لـ "النمط الفرنسي بالحياة"، ذاك الحب العارم لمباهج الحياة، والحفاوة بها، عفوياً، بلا قيود ولا مواجع ولا ملاحقات، كما في غير فرنسا من بلدان البؤس والظلام... كل هذا سوف يتغير. صحيح أن الفرنسيين أطلقوا الهاشتاغ "تعالوا إلى الحانة"، ليعلنوا بذلك مقاومتهم للإرهاب، على طريقتهم، بتعلقهم بما يكرهه مجرموه. صحيح هذا، ولكن ما أن سُمع في حي فولتير صوت يشبه قنبلة حتى فرغ الشارع والحانات كلها من الناس. يذكِّرني هذا النوع من مقاومة الإرهاب بما كنا نقوم به نحن في بيروت طوال ثمانينات القرن الماضي، أي في العقد الأخير من الحرب الأهلية، كم كنا نتقصَّد الخروج إلى الحانات والسهر والشرب والرقص. وكم كانت عقولنا وقتها، أو بالأحرى لاوعينا، مشغول بالخراب الذي حولنا، وكم تبدّل سهرنا هذا عن سهر عن سهر ما قبل الحرب. هذا نعيه اليوم، طبعاً، وربما سوف نعي أكثر منه بعد سنوات إضافية. الخلاصة أن السهر وحب الحياة الفرنسيين، لن يعودا إلى سابق عهدهما.

من هذه النواحي كلها، يمكن القول إن الإرهاب حقّق شيئا من أهدافه، بأنه خدم الدوغما "الجهادية"، بأنه خلق حالة تشابه أمني هوياتي وحياتي بينه وبين فرنسا. أما الإعلان المهيب لفرنسوا هولاند "أريد أن تتمكّن فرنسا من البقاء كما هي، كما كانت"، فيبوح بمكابرته، ومحدودية مخيلته الحربية.