الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عثمان بن شقرون: عوالم الفيسبوك

عثمان بن شقرون: عوالم الفيسبوك

الفيسبوك، أو العالم الأزرق أو ما شابه ذلك من الأسماء، عالم عجيب غريب كسائر خلق الله. له ظاهر وباطن. أما ظاهره هو ما قد يراه البعض وسيلة من وسائل الاتصال والتواصل وأداة من أدوات الحصول على المعلومة وبثها أو إعادة إنتاجها. وهو دور سبق أن قامت به وسائل أخرى منذ القدم وقبل اختراع الأجهزة الذكية وظهور ما أصبح يصطلح عليه بمواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد والإعلام البديل .. وأما باطنه فهو ذلك النصف من الجبل الثلجي المخفي في أعماق المحيط ولا يعلم سره إلا عالم الدواخل والمخفيات من مجاهل الذات الإنسانية.

والفيسبوك في العمق محاكاة للواقع الحقيقي، مثله مثل المسرح وباقي الفنون. فمنذ أن يفتح الفرد ما بات يسمى بالحساب حتى يرفع الأشرعة ويقلع مبحرا نحو مرافئ مجهولة من ذاته ومن ذوات الأغيار، ويغوص في أسرار وكمائن الباحثين عن ملجأ افتراضي والنازحين إليه طوعا أو قسرا، هربا من خبث الواقعي، أو بحثا عن زمن منساب أو زمن على وشك التكوين، أو مجد  ضائع أو حب مستحيل..

والفيسبوك الآن، بالنسبة لنا نحن العرب، بمثابة ديواننا المعاصر، مثله مثل الشعر في غابر الأزمان. فيه نسجل تاريخنا الفردي والجماعي وفيه نخلد مآثرنا وأمجادنا وأحلامنا الخائبة وانتكاستنا التي لا تعد ولا تحصى. وقد يحدث أن تلتقي بامرئ القيس وشبيهه أو طرفة ابن العبد في نسخته الجديدة. وأحيانا أخرى بعنترة بن شداد وفي أحسن الحالات بزهير ابن أبي سلمى. والفيسبوك أيضا منعطف فاصل في حياة العامة، إذ بنوره انتقل معظم الناس من ظلمات الشفاهي إلى نور الكتابي.  ورغم ما ينعت به من قبيح الأوصاف فلقد كان فتحا مبينا بمثابة عصر تدوين ثان. فلا غرو أن نتقاسم الفضاء بكل أريحية مع الإمام مالك وحماد بن سلمة وعبيد بن شرية الجرهمي وأبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي دون أن يتعالى الواحد على الآخر.

إلى ذلك فالفيسبوك بمثابة كاشف للأسرار كعيني زرقاء اليمامة،  أو كخبير في التحليل النفسي. يُخرج ما في بطن المرء بشعور منه أو بلا شعور من السر إلى العلانية، فيغدو الحائط ككشف تخطيطي لبنية المبحر الذهنية. وحسب العارفين من أهل الاختصاص فإن سيادة التافه والمبتذل هو الأعم الأغلب، لأن حسبهم فالعقول لم تتغير لعدم الأخذ بأسباب الأفكار والحركية الاجتماعية والثقافية التي أنتجت التكنولوجيا. إذ تم الاكتفاء باستهلاك قشور التكنولوجيا حتى أضحى الوضع كمن يمشي على طريق مفروش بقشور الموز، الانزلاق فيه أمر حتمي.

أما أشد الأبواب لغزا في هذا العالم فهو باب الصداقة، والحديث فيه يطول. وقد قال أحد العارفين بحبائل هذا اليم  الأزرق، إن الصداقة  على الفيسبوك مدخل إلى متاهات لا مخرج منها. كأن يألف المرء صديقه إلى درجة الارتباط.  حينها ينفصل عما حوله ليتقرب إلى الجهاز ويشخصنه ويصبغ عليه صبغة الصديق المفتقد. أو كأن الذي بينك وبينه صداقة ما هو إلا زائر ليلي.  وقيل أيضا إن أخبث السلوك السائد على هذا الحيز هو السعي إلى طلب الصداقة بعقلية ذكورية، كمن لا هم له سوى الاختلاء بالأنثى، لينفث فيها كبته الاجتماعي المزمن. لكن بعض النسوة بحكم المساواة الراهنة وبحكم التطبع على الرؤية التي سجنهن فيها الرجل منذ الحقب البائدة لا يفتأن ينصبن للرجل أو الذكر على العموم الشراك تلو الشراك على البروفايل كما في الواقع، من أجل الدخول في صراع غير متكافئ بين قوة الجسد المندفعة وبين حيلة الضعيف الفتاكة.. فيما قال أحد من الذين اعتزلوا الحياة: على هذا الفضاء الأزرق يتم إعادة تمثيل قصة آدم وحواء بامتياز، حيث يبدو فيه ذاك الصراع الأزلي الأبدي بين كائن منقسم على نفسه.. ولله في خلقه شؤون.