الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: الصحراء المغربية .. كسب الرهان بالتعبئة والعمل في الميدان

عبد القادر زاوي: الصحراء المغربية .. كسب الرهان بالتعبئة والعمل في الميدان

بعد أربعين سنة من المعايشة اليومية لأطوار النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، حيث تحققت العديد من الإنجازات، وتطورت قدرة فائقة على استيعاب الانتكاسات والتعامل مع السلبيات، ما زلنا كمغاربة نتصرف في الكثير من الحالات بانفعال غير مبرر وغير مستحب عندما نستشعر للوهلة الأولى وجود من يخطط أو من يرغب في الإساءة إلى وحدتنا الترابية.

 وها هو نفس الانفعال والتسرع يحضران مرة أخرى بمجرد الإعلان عن وجود توجه في البرلمان السويدي للتوصية لحكومته بالاعتراف بالجمهورية الصحراوية الوهمية. ندد الجميع بالخطوة المرتقبة، وهو سلوك محمود وتعبير عفوي صادق عن الإيمان المطلق بالوحدة الترابية للمملكة، ولكن سرعان ما طغى الانفعال على الجميع، مجسدا في مظاهر متسرعة تثير العديد من  التساؤلات. وأهم هذه المظاهر :

           *تهديد الحكومة بإشهار سلاح المقاطعة الاقتصادية وتجميد مشاريع استثمارية دون التدبر في العواقب، ولا الانعكاسات المحتملة، والصورة التي تخلفها عن مناخ الاستثمار في المغرب، في وقت تريد البلاد تطوير جاذبيتها الاستثمارية وتحسين مؤشراتها في هذا المجال، وفي مقدمتها أولوية القانون على ما سواه، وغياب تدخل الظروف السياسية.

          *تحريك مظاهرة احتجاج أمام السفارة السويدية بالرباط بدت من تغطيتها الإعلامية التي ظلت محلية، والتصريحات التي واكبتها أنها كانت مرتجلة وعشوائية، وقد تكون أضرت بصورة الموقف المغربي أكثر مما أفادته، خاصة وأنها لم تحدث الصدى الذي كان مرجوا منها، وكانت مثار سخرية في مواقع التواصل الاجتماعي.

*تشفي البعض في تدبير الحكومة للقضية الوطنية، وتسجيل النوايا السويدية في خانة خيباتها المتعددة، وتحميل الدبلوماسية وحدها وزر ما يحصل دون الالتفات إلى أن السياسة الخارجية ما هي إلا انعكاس للسياسة الداخلية.

وبطبيعة الحال، فإن أول ضحايا هذا الانفعال الزائد هي الموضوعية في مقاربة الأمور. هذه الموضوعية التي تقول بأن السويد أيا يكن موقفها، فهي لا تملك صكوك السيادة على الصحراء حتى تهدد بمنحها لهذا ومنعها عن ذاك. لقد سبقها في الموقف الذي لم تتخذه بعد منظمة الوحدة الإفريقية، (الاتحاد الإفريقي حاليا) بكل ما تمثله من ثقل وبعدد دولها التي تزيد عن الخمسين دولة، واعترفت بالجمهورية الوهمية دون أن تغير شيئا من الحقائق على الأرض.

لقد حدث تماما عكس ما كانت تريد المنظمة الإفريقية، إذ بانحيازها الأرعن لطرف دون آخر فقدت دورها كوسيط نزيه، وابتعدت عن التعامل الإيجابي والبناء مع ملف كان من صميم اختصاصاتها ليس فقط لأنه يقع ضمن نطاقها الترابي ويهدد السلم في جزء منها، وإنما حظي تدخلها عندما كان منطقيا ومحايدا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بموافقة الأطراف المعنية نفسها. ألم تطرح فكرة الاستفتاء لأول مرة في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي سنة 1981 ؟

إن تجربة المنتظـم الإفريقي، الذي أحدث النزاع الوهمي حول الصحـراء المغربية شرخا كبيـرا

بين أعضائه الذين انقسموا بين مؤيد للمغرب وآخر مناوئ له، وثالث يقف على الحياد كان يفترض أن تعطي المزيد من الثقة للمغرب في مواجهة أي ضغوط يتعرض لها، وأي مناورات واستفزازات تستهدف النيل من وحدته الترابية  لو لم تعتر استراتيجيته مجموعة من المتغيرات، التي أسيئ فهمها وتقديرها، ولم تتم معالجتها ومعالجة أعراضها بما يكفي من النجاعة في الشرح والتفسير في الوقت المناسب. وأبرز ملاحظتين يمكن تسجيلهما في هذا السياق :

1/ الإفراط في تبني منطق التسوية المتفاوض بشأنها وتواتر طرح مشاريع الحلول من جانب واحد هو الجانب المغربي، الذي ترتكز أطروحاته، على أساس أن منطق التسوية تتضمنه الشرعية القانونية نفسها التي استند عليها المغرب في استرجاع أراضيه، كما يمكن أن نستنتج من الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي أكد على وجود روابط بيعة شرعية بين ملوك المغرب وسكان الصحراء، وروابط مماثلة لتلك الساكنة مع موريتانيا من غير أن يستبعد مبدأ تقرير المصير، ولكن دون تحديد طريقة ذلك التقرير. وبمنطق التسوية نفسه جرى التوصل إلى اتفاقية مدريد مع الحكومة الإسبانية يوم 14 نونبر 1975.

ولكن منطق التسوية الذي تبناه المغرب على الدوام وبحسن نية قوبل بتمترس وتعنت الطرف الآخر في موقفه الانفصالي المعروف عنه منذ أن اختلق النزاع، رافضا التقدم بأي أفكار يمكنها أن تصب في إيجاد الحلول المتوافق حولها من الأطراف المعنية، متوهما  أن تكرار المبادرات المغربية دليل ضعف، ويشكل نوعا من التنازل المجاني الذي يمكن مواصلة ابتزاز المغرب على أساسه، والتسبب في المزيد من الإحراج له، خاصة إذا اقترن ذلك بمجال حقوق الإنسان، الذي يتوهم الخصوم أنه  الحلقة الأضعف في الأطروحة المغربية.

ومن هذا المنظار لم يكن مستغربا  البتة أن يجري تعاطي البوليزاريو ومن يقف وراءها بهذه الرؤية مع كل  المقترحات والمبادرات المغربية بما فيها مبادرة الحكم الذاتي، التي باتوا يعتبرونها مكسبا مضمونا اعتقادا منهم بأنه لن يكون بإمكان المغرب التراجع عنها، سيما وقد أثنى عليها المجتمع الدولي واعتبرها مبادرة جدية وذات مصداقية.

2/ اختزال التعامل مع الوحدة الترابية للمملكة من قضية وطنية إلى مسألة بيروقراطية يستدعى طابعها الوطني في المناسبات فقط. هذا الاختزال ليس وليد اليوم وإنما بدأ مع انطلاق الأزمة، إذ تم منع الأحزاب الوطنية لمدة طويلة من النشاط في الأقاليم الجنوبية، كما تم تهميش الأطر المؤسساتية التي كانت تمثل الساكنة حينها وأبرزها الجماعة، التي كان يقودها المرحوم خطري ولد سيدي سعيد الجماني رغم أنها هي من أعادت في الواقع تجسيد مفهوم البيعة كأساس شرعي لاستعادة الوحدة الترابية للبلاد، عندما بادر أعضاؤها وبايعوا الملك الحسن الثاني رحمه الله.

 وقد بينت التطورات بأنه لم يكن مطلوبا اختزال الملف وإنما احتكاره ليغدو اختصاصا حصريا في الداخل والخارج لدى وزارة الداخلية التي كان على رأسها آنذاك المرحوم ادريس البصري من دون إدراك أن سياسة إقصاء أي قوى وطنية حية من النشاط في المناطق الجنوبية سيترك المجال مفتوحا أمام البوليزاريو ليصبح الناطق الوحيد باسم جزء من سكان الأقاليم الصحراوية.

فهل كان هذا الاختزال خطأ غير مقصود أم نهجا موحى به من قوى دولية كانت ترى أن استمرار التعبئة الشعبية في هذا الموضوع يفوت عليها فرصة الضغط على الدولة المغربية ؟ إن الخرجات الإعلامية للمرحوم  ادريس البصري بعد إعفائه من مهامه، وتحامله في الكثير من القضايا على بلاده تضفي نوعا من المشروعية والمصداقية على تساؤل كهذا من دون أن نجد بين ثناياها أجوبة شافية.

إن تجربة الأربعين سنة من عمر هذا النزاع المصنف أكاديميا ضمن النزاعات المجمدة التي لا يمكن فرض حل لها دون إثارة رفض أحد الأطراف، تشير  إلى أن المقاربة التفاوضية في شكلها التقليدي قد وصلت إلى حائط مسدود، إذ باستثناء تثبيت قرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار سنة 1991، فإن كافة الجهود الدولية لم تنجح في إحداث اختراق يذكر في مواقف الأطراف المعنية، رغم أن تلك الجهود تعاقب عليها ستة مبعوثين دوليين بعضهم مشهود له بعلو الكعب، وتمتع بمساندة أكبر القوى الدولية مثل كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية الأسبق جيمس بيكر.

         وقد كانت هذه النتيجة منتظرة لأن أطراف النزاع تفتقد الحد الأدنى من الثقة فيما بينها وتبني مواقفها على رفض كل ما يقبله الطرف الآخر، كما بدا ذلك مبكرا منذ أن فشلت لجنة تحديد الهوية في تحديد من له أهلية المشاركة في الاستفتاء الذي كان يرتقب تنظيمه في الأقاليم الجنوبية حيث طغى التعنت بين شيوخ القبائل فضاعت الحقيقة بينهم، وكما بدا من مواقف الأطراف إزاء مقترح بيكر 1 ومقترح بيكر 2.

ولهذا بادر مجلس الأمن الدولي منذ سنة 2004 إلى الإقرار باستحالة تطبيق المقترحات المتعددة المطروحة سابقا، داعيا عبر العديد من القرارات إلى تجاوز الطريق المسدود الذي وصلت إليه المقاربة التفاوضية التقليدية، والعمل على ابتكار مقاربة جديدة ناجعة أرادها أن تتأسس على محاولة مد جسور للثقة بين الأطراف ولو كانت هشة. محاولات تجسدت بجلاء في تبادل زيارات العائلات التي تجاوب معها المغرب بأريحية وتلقائية أكثر من الطرفين الآخرين اللذين خشيا من الإغراء الذي ينتج عند المقارنة بين نمو الحواضر المغربية في الصحراء والآفاق التي يفتحها، وبين بؤس واقع المخيمات حيث الجميع يراقب الجميع.

ولا غرو في ظل هذه المعطيات أن تتشبثت جبهة البوليزاريو بعنادها بمؤازرة ممن يحميها، فيما بادر المغرب إلى التجاوب إيجابيا مع طلب الأمم المتحدة القاضي بضرورة البحث عن سبيل ثالث لإخراج الملف من المأزق الذي وصل إليه، ومع مناشدات عدد من الدول للمغرب بالإقدام على خطوة خلاقة ترجح مقاربة تقوم على الانفتاح والتفاوض، فكانت مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب رسميا سنة 2007.

ويتضح من الخطوط العريضة لهذه المبادرة أنها ذات طبيعة توافقية، خلاقة، مسؤولة ومنفتحة من شأن تطبيقها تمكين جميع الصحراويين في الداخل والخارج، الأحرار منهم والمحتجزين في مخيمات العار من تدبير شؤونهم المحلية بديمقراطية من خلال هيئات تمثيلية تشريعية وتنفيذية ينتخبونها بمحض إرادتهم.

ورغم التأكيد على أن المبادرة مجرد أرضية لإحداث ديناميكية جديدة في مسار الحوار العقيم، وأنها قابلة للإثراء باقتراحات باقي الأطراف خلال المفاوضات بشأنها، ورغم ثناء المجتمع الدولي عليها واعتبارها جدية وذات مصداقية، فإن الطرف الآخر سعى بكل الوسائل إلى التعتيم عليها، والتشويش على أي فرصة للبحث الجدي فيها ؛ الأمر الذي جعلها تظل حبيسة الأدراج، رابضة عند نقطة الانطلاق منذ أزيد من ثمان سنوات.

إن تواصل تعنت الأطراف الأخرى الرافضة تطوير نظرتها واستيعاب أهمية المبادرة المغربية في إشاعة السلم والأمن في المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل والصحراء اللتين باتتا بؤرتين للتوتر وعرضة للكثير من المخاطر والتهديدات جعل كل التحركات تدور في حلقة مفرغة يحاول البعض بمن فيهم المبعوث الأممي كريستوفر روس كسرها بأطروحات مستجدة لا يمكن القفز إلى مناقشتها ما لم تناقش المبادرة المغربية ذات الأسبقية والجدية والمتواءمة مع القرارت الدولية ذات الصلة.

ولعل ملاحظة بعض الإصرار على عدد من محاولات تجاوز المقترح المغربي بدعوى تطويره هي التي دفعت المغرب إلى التحذير رسميا من مغبة الانسياق وراء المغالطات وتفصيل الحلول في المكاتب المغلقة دون مراعاة المعطيات التاريخية والبشرية والحقائق الميدانية لما تشكله من أخطار محدقة على الاستقرار الهش في منطقة المغرب العربي.

وبديهي ألا يقف التحوط المغربي عند هذا التحذير، وإنما من الضروري الاستنفار العام بذكاء وبشكل يتناغم مع القرارات والقوانين الدولية والالتزامات التي أخذها المغرب على عاتقه. في هذا الإطار ينبغي الاستفادة من الزيارة الملكية المرتقبة لمدينة العيون لإعطاء الانطلاقة لمسلسل عملي جديد فعال يرسخ الوحدة الترابية بشكل يفهمه القاصي والداني، ويساعد كل ذي غيرة وطنية في سعيه لإقناع مختلف فعاليات المجتمعات المدنية في العالم بصواب وجهة نظر المغرب وخطإ أي مقارنة للوضع في الصحراء مع قضايا التحرر الأخرى عبر العالم، ولا سيما القضية الفلسطينية.

وإضافة لما يعتزم جلالة الملك إطلاقه من مشاريع تنموية، من الممكن على سبيل المثال لا الحصر أن يستند هذا المسلسل الوحدوي الجديد على ما يلي :

/ بمجرد انطلاق قطار الجهوية المحدثة كجماعة ترابية جديدة في المملكة ينبغي التفكير في تطوير إطارها بالأقاليم الجنوبية ليكون توطئة لتطبيق مفهوم الحكم الذاتي ومنسجما مع حيثياته كما جاءت في المبادرة المغربية، التي تصل إلى حد السماح بتشكيل نظام قضائي خاص بجهة الصحراء يمكن أن يتضمن محكمة عليا جهوية، من دون إغفال إمكانية إحداث مجلس انتقالي للإعداد لأول انتخابات في جهة الحكم الذاتي.

/ بدلا من مواصلة الاعتماد على فئة معينة من الأعيان والنخب القديمة المستهلكة من الضروري الانفتاح على نخب جديدة وإشراكها في بلورة هذا الإطار لاستقطاب المزيد من المترددين في الداخل وفي المخيمات لجانب الطرح المغربي، وخاصة الشباب الذين تسعى جبهة البوليزاريو إلى استثمار نقمة البعض منهم. لقد سمعنا من بعض هؤلاء الشباب علانية أنهم انفصاليون ما داموا عاطلين عن العمل وبلا آفاق مستقبلية.

بهذا الشكل من التحرك يمكن استنهاض التعبئة الشعبية من جديد، خاصة وأن الموقف الشعبي في قضية الصحراء كان دائما سابقا على الموقف الرسمي الذي يسجل التاريخ أنه تحرك لاستعادة وادي الذهب سنة 1979، فيما كان الموقف الشعبي قد ردد مع جيل جيلالة منذ سنة 1975 : العيون عينيا والساقية الحمرا ليا والواد وادي يا سيدي. 

ومما لا شك فيه، فإن تعبئة شعبية عقلانية بعيدة عن الطابع المناسباتي ستكون استجابة لما أعلنه جلالة الملك بأن الدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد لا يحتاج إذنا من أحد، وستكون مؤثرة كثيرا في تقديرات القوى الدولية والإقليمية التي تتابع عن كثب الزيارة الملكية المرتقبة للعيون. فهل ننجح في جعل هذه الزيارة رمزا لمسيرة خضراء ثانية تتوخى فتح العقول والقلوب ببرامج تنموية وديمقراطية خلاقة ومبتكرة ؟