لا يكفي أن نؤكد كل مرة بأن الصراعات بين مكونات المجتمع المغربي الاقتصادي والسياسي والثقافي هي التي تدفع إلى التطور التاريخي لأنها "موتور التاريخ"، يتمخض عنها تحول المغرب من دولة المخزن والأعيان إلى سيرورة مجتمعية في الطريق إلى تكوين دولة المؤسسات والمواطنة؛ بل ينبغي أن نوضح أن تكون وتشكل الوعي الديمقراطي كفيل وحده بأن يتيح للمشروع الحداثي الديمقراطي فرصة التبلور لمواجهة الظلامية التي تكرس الغيبية والخوف والاستبداد والقداسة والعرقية والعودة إلى الماضي. بالمقابل، فإن تطور الظلامية إلى مشروع سياسي/الظلاموية، يحكم على المجتمع بالتفكك والتحلل ويحول دون تبلوره المرتقب في صورة مجتمع عصري، حديث، ديمقراطي، واجتماعي منفتح، يمنح للجميع الحق في المساواة والعدل والإنصاف ويقضي على نظام السخرة وبقايا العبودية والإقطاع وتقليص الهوة بين الأثرياء والفقراء.
إن ما حصل يوم 4 شتنبر الماضي ببلادنا، جعلني أستحضر نصوص كتابات وحوارات فراي بيتو (رجل دين مسيحي مشهور، صاحب "الإيمان والسياسة") ودروس العلوم السياسية وسوسيلوجيا الدين والسياسة المنتسبة لمدارس أمريكا اللاتينية التي أسسها ليونردو بوف وهوغو آسمان وغيرهم، لمحاولة فهم تناقضات الظلاموية وطبيعة طروحاتها، والعلاقة بينها وبين الدين من جهة والظواهر الاجتماعية من جهة أخرى.
وهو ما يعني الحاجة الضرورية والتاريخية لبناء حركة شعبية لمقاومة الظلاموية، خاصة وأن من جملة السمات المميزة التي يتجلى من خلالها غياب هذه المقاومة، نذكر تخلي جزء كبير من الطبقات المسيطرة والتابعين لها إداريا وثقافيا واقتصاديا عن مصالحها لصالح الحزب الإسلامي والحركات التابعة له، وفقدان الطبقة المتوسطة لجزء من هويتها وقوميتها وثقافتها، وانسلاخها تدريجيا من معالم قيمها ووظائفها الاجتماعية وسقوطها في أحضان الغرباء بسبب غرائز حياتها اليومية. وفي الحالات القصوى نجدها أمام كاريكاتور ازدواجية الخطاب.
وما يزيد في الطين بلة اليوم، هو: صمت الطبقة المثقفة وانهيار الإعلام التقدمي التنويري، وشيخوخة الفاعلين السياسيين التقليديين بمختلف أطيافهم، وعجز النشطاء عن الخلق والإبداع، والتحلي بالجرأة ليس فقط لسب النظام والدولة، بل لطرح بديل اجتماعي، شعبي وتحرري، يستقطب لدائرته عموم الشعب ويقطع الطريق على الظلاموية.
لقد أبانت الأجندة الانتخابية بكل أشكالها وبتوقيتها ونمط اقتراعها وقوانينها، عن جوع سياسي كبير كان يسكن أمعاء الظلامويين الذين انتهزوا فرصة المرحلة الانتقالية والزمن السياسي اللعين، للانقضاض على ممارسة الديمقراطية التمثيلية التي وصلت إليها كل الشعوب ليس بالتسلطية، بل بانخراط جميع المواطنين البالغين في العمل السياسي.
بطبيعة الحال كان للدولة العميقة ممثلوها وعملاؤها في صفوف جميع المؤسسات داخل المغرب وخارجه. عندما كان صانعو "سنوات الجمر والرصاص" يخططون لتنظيم حملاتهم ونشر دعوتهم لمحاصرة التقدميين وتحريك ماكينة سياسية لصناعة من ينوب عنهم في عمليات التفاوض مع أصحاب القرار النافذين من أجل "المسلسل الديمقراطي" و"السلم الاجتماعي" و"المغرب الجديد".
واليوم لا بد من القول أن ما يؤسس له التيار الظلاموي ببلادنا، هو جزء لا يتجزأْ من تراث "الجمر والرصاص"، وما عاشته الحركات التقدمية المغربية من خيبات أمل، يرجع بالأساس إلى تأثرها بآلام وجراح وآهات وأحزان ومضايقات ومطاردات واعتقالات واختطافات ونفي.. إلا جزءا من الحقيقة التي عايشنا نزرا قليلا منها. ولا نريد اليوم البكاء على الماضي، وتعليق فشلنا كتقدميين في مواجهة المد الظلامي على مشجاب غيرنا.
ولا نريد التعامل مع هذا الموضوع كقضية تكتيكية، كموقف قريب من الانتهازية. بالفعل هناك تيارات فاعلة في الحركة التقدمية وتضع مواقفها المبدئية/التاريخية كشرط لفعلها السياسي، لكن طليعتها معزولة عن الشعب وتقييمها للأوضاع يطبعه التبرير على مستوى الدفاع عن الذات.
إن هذا لا يعني أن مصلحة التقدميون هي عبارة عن دوافع سلوكية. غير أن الواقع السياسي الحالي الذي تمر منه بلادنا يفرض في اعتقادنا ضرورة التأمل في الدور الوظيفي للتقدميين المغاربة وعلاقتهم بالناس والأفراد باعتبارهم حوامل للعلاقات الاجتماعية وما تفرضه هذه العلاقات من مصالح مستترة وظاهرة وما تعكسه من ممارسة ميدانية.
لقد عايشنا عن كثب تجربة 4 شتنبر من موقع الفاعل السياسي والأستاذ الجامعي، ووقفنا على العديد من الممارسات والسلوكات التي كنا نعتقد أنها مرتبطة بالبنيات الاجتماعية التي يتشكل منها التكوين الاجتماعي، غير أن ملاحظاتنا الأولية ودائرة ممارساتنا قادتنا إلى حقائق مروعة ناتجة عن تصرفات وسلوك أفراد وجماعات منظمة وفاعلة في العملية الاجتماعية برمتها.
والسؤال الذي نطرحه الآن وغدا هو كالتالي:
هل السلطة الحالية انعكاس فعلي لهذه البنيات الاجتماعية المحددة في الصراع الطبقي المغربي الحالي؟ إننا نسمع عن سيطرة الحزب الحاكم هنا وهناك، ونسمع عن قوة تنظيمه وتأطيره، ونسمع عن احتمال توزيعه للسلطة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية، ونسمع عن نفوذه المالي وعلاقاته بدوائر مالية عالمية، ونسمع عن بداية تشكل قوته الاقتصادية...ألخ، وهذا رأي العديد من المنبهرين بالظلاموية. غير أن ما يميز هؤلاء هو عدم قدرتهم على التمييز بين الجماعات والطبقات على أساس علاقات السلطة وعدم قدرتهم على فضح الأدوار المنوطة بالحزب الحاكم والقائمة على الطاعة والركوع والخنوع.
إن بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي الذي ننشده، لا يمكن بناؤه بالجوع السياسي وحب السلطة، بل بنضال مستمر قائم على بناء الاقتصاد الوطني والقضاء على الاستغلال وتحرير الفلاحين من بقايا الإقطاع ونظام السخرة وتجهيز التعاونيات الزراعية وتشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وإقرار المساواة والتضامن والوفاق والمحافظة على الروح الإنسانية. وهذا يتطلب تشييد قواعد أولية مادية وتقنية وتكنولوجية، واستقلالية سياسية واستثمار مسؤول في الرأسمال البشري.
يتبع...