الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

المريزق المصطفى: المهنة أستاذ جامعي... والصفة مستشار

المريزق المصطفى: المهنة أستاذ جامعي... والصفة مستشار

ما وراء الاعتراف العام بتكثيف واقعي أو حقيقة الإدراك للترابط الموضوعي هناك جزء كبير من الحقيقة تتعلق بماهية التصور النقدي للقوى السببية المحركة للصراع، وقوة المرء أن يميز نتائجها البنيوية لكي لا يتيه وراء السراب.

لقد عاش المغاربة في الأيام الأخيرة ما لم يحلم به عدد من الفاعلين السياسيين والمهتمين والملاحظين والمراقبين. ويرتبط كثير من هذا بثورة المغاربة في الاهتمام بالشأن العام وفي التكنولوجيات المرافقة له والتي استولت على الخيال الشعبي وأماطت اللثام عن واقع المغرب بريفه وحواضره وجباله وصحرائه.

هذا الكتاب/المقال، لا يتوسل مقام المعرفة المجردة، ولا يندرج في شفف التيه ولا يبحث عن جمال الكلمات، فهو استمرارية لمداخلاتنا ومواقفنا التي تنزع إلى ربط الكتابة بالسياسة، بمعنى الدفاع عن انتزاع الشرعية من الطموح السياسي، وقد نقاتل بشكل سلمي من أجلها، لأنها رصيدنا الحقيقي... وهو ما نملك.

وأسباب النزول هو ما شهدته بلادنا يوم 4 شتنبر الماضي، وما تفجر من تغيرات سياسية -أكيد سيكون لها تداعيات اجتماعية وسياسية- عاشها المغرب بشكل مغاير إن لم نقل استثنائي، تمخضت عنه الثورة الهادئة التي طالما تنبأنا بها وكتبنا عنها أكثر من مرة. وتعتبر هذه الثورة "بنت الأنوار المغربية" التي تبحث عن إشعاعها العلمي والثقافي وعن النهضة العقلانية المتصاعدة التي تؤمن بالتغيير وبالتطور وبنمط التفسير والتحليل الفلسفي والقانوني والسياسي والديني المتنور.

فمن الثابت أن مفهوم التغيير بات ينتمي إلى دائرة التراث المتراكم لدى قوى التغيير المغربية. ولقد لحقته نتائج الاستحقاقات الأخيرة لتؤكد بالملموس أن التغيير ممكن وأن المدافعون على ضرورة أتباع طريق السلف في منهج وأسلوب العقيدة، بينهم وبين الحياة: سيادة التقليد والجمود.

نعم، إن المادة التاريخية غير جاهزة الآن ليكون الحكم أكثر موضوعية، لكن لن نرجئ الخوض في حياتنا السياسية إلى ما بعد. فسواء أصبنا أو أخطئنا، فما نبوح به اليوم من دون مسافة، يعتبر إسهاما فيما سيحكي عنه المؤرخ غدا.

إن واقع الانشقاق والتذبذب الذي شهده الصف الديمقراطي في مرحلة من مراحل سيرورة يسارنا، استخدم ضدنا جميعا، وما زال، والمستفيد الأكبر منه كان هو الدين السياسي الأصفر، ما شجع هجرة الجماهير الشعبية بشكل جماعي بحثا عن السراب وأوهام الجوع السياسي.

لقد بينت الخريطة السياسية اليوم، أن الممارسة السياسية لا تعني بالضرورة الاستيلاء على السلطة وأن القيمة الكبرى للنقابات وسيلة للبناء الاقتصادي وليس للدفاع فقط، وأن دور جمعيات المجتمع المدني هو التربية على المواطنة وحقوق الإنسان والحرية وليس ممارسة الضغط على الدولة فقط، وأن دور المدرسة والجامعة هو الكل في الكل...

كان قصدنا الأول نفض الغبار عن مسار تجربتنا ودخولنا إلى حلبة الصراع وممارسة اللعبة، بعدما بات خطر الظلام يهدد أطيافنا. لأن خطر الظلامية لا يبرز فقط في مرجعيتها واستبدادها بل في مشروعها الهيمني على الدولة والمرتبط بصناعة سياسية تؤمن بالدمار الشامل للحرية ولحقوق النساء والإنسان.

كان انخراطنا في حزب الأصالة والمعاصرة، وخوض تجربة الاستحقاقات الأخيرة، عنوانا لانتزاع الشرعية في ساحة الصراع المباشر بين السلطة السياسية والاقتصادية والمالية، ومن يمثلها من رأسمالية هجينة وأشباه النخب والأطر التابعين لها ومن يبيض أسهمها باسم الدين والوعظ والإرشاد، وبين عشاق الوطن وأبنائه الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية في ميدان مكشوف، وفي أحد أقسى نضالات الشعب المغرب التي يذكرها التاريخ.

لقد تركز اهتمامنا لعقود طويلة على التدافعات الثانوية بين أفراد أسرة اليسار، وعلى صراع الزعامات والشرعيات، في وقت كانت فيه الحركات الاحتجاجية ضد سياسات الليبرالية الجديدة والشركات الرأسمالية تراكم تجاربها عبر العالم منذ 1944، أي منذ تحركات جيش التحرير الوطني لزاباتيستا في تشياباس بالمكسيك.

إن ما وصلت إليه الظلامية اليوم من هيمنة إسلاموية قسرية، يفرض علينا صرخة موحدة: "نريد أن نعيش أحرارا"، وحركة متماسكة، لأننا لسنا انعزاليين أو انفصاليين أو قوميين.

إننا حفدة عبد الكريم الخطابي وموحى وحمو الزياني وماء العينين، ورفاق المهدي وعمر وسعيدة وزروال وشباضة وايت الجيد، واللائحة طويلة.

وإيمانا بجذور هذه الشجرة، ووفاء لحياتها وديمومتها، ركبنا مطايا عشق الوطن سعيا إلى التغيير والمشاركة من دون شك بخيال العموم، وبرؤية بديلة أو تحويلية لمناهضة الظلامية.

شعارات سياسية كبيرة رفعناها طوال مسارنا النضالي، تحقق منها الجزء الكبير بفضل نضالات الشعب المغربي. لكن لماذا توقفنا في منتصف الطريق؟ لماذا أوقفنا رسائل العشق بيننا؟ لماذا هجرنا أمسياتنا الغنائية والشعرية؟ لماذا خفتت أضواؤنا؟ لماذا تركنا طلبتنا من دون حماية ولا أمان؟ لماذا نهرب من ضيق المجتمع؟ لماذا عشعشت الأنانية في أعماقنا وأصبحنا نبيع حياتنا للتدبير المفوض؟

نعم كل واحد منا يحب أطفاله ويتمنى أن يعيشوا في أمن وأمان وأن يدرسوا في أحسن المدارس، كل واحد منا يعشق السفر وقضاء العطلة في أجمل المنتزهات الوطنية والعالمية، كل واحد منا يريد أن يعالج عند أحسن الأطباء، كل واحد منا له طموحاته... وهذا من حق الجميع. لكن أن نفوض حياتنا لمن يهدد كل هذه الطموحات ومعها كل مطالب وحقوق المغاربة، فهذا لا يقبل.

يمكن تكوين فكرة خاطئة عن واقع السياسة في هذه الفترة إذا لم نكن على بينة من الكيفية التي يتم تجنيد وتسليح وتجميع  تشكيلات من المحترفين في الإسلاموية، والتي يفتخر البعض بانضباطها وصرامتها وتنظيمها المحكم.

إن كلام الخطباء في الخلايا والمساجد، والاقتراب من "المؤمنين" والصلاة معهم، هو الذي يدفع المغلوبين والمقهورين والمعذبين في الأرض إلى اّلانخراط والتصويت على الظلامية.

وأمام هذا الخطر الجارف، كان على العديد من مناضلي حزب الأصالة و المعاصرة أن يضعوا أنانيتهم وغرورهم جانبا وينخرطوا على المستوى العام ضد منظومة الاستسلام والهروب من مصير الصراع الدائر رحاه في كل أرجاء المملكة.

وكانت مشاركتنا كفيلة دون شك بإذهال الخصوم وتحقيق نتائج جد مرضية يجب علينا استغلالها لخدمة المشروع الديمقراطي لبلادنا.

فعلى الرغم من ثراء الأساطير، على نحو ما عايشناه من الداخل، فإن تجربتنا حين نلجأ إلى توظيف الإيجابي منها، فهي حبلى بكثير من الدلالات التاريخية والسياسية. ولعل من أهمها صمودنا في وجه طقوس التتويج ذات الأهمية القصوى أو ما يؤسس شرعية السلطة.

نعم، الوضع السائد بالمغرب اليوم يصح أن يقال عنه وضع جديد تماما بالمقارنة مع الوضع الذي كان عليه المغرب قبل عشرين سنة. لقد كان المناخ السياسي متعفنا للغاية، وعنوان تلك المرحلة "الجمر والرصاص" والذي أصبح درسا من دروس العلوم السياسية في جامعاتنا.

لكن الجدير في الوضع الحالي لا يتمثل في تجاوز "الجمر والرصاص"، بل في الدفاع عن الشرعية الديمقراطية واعتناق التحول الذي دشنته حكومة المناضل عبد الرحمان اليوسفي التي أوقفت تدهور الأوضاع وفتحت آفاقا جديدة انطلاقا من اختيار سياسي أفضى إلى التخلي عن التسلط والتعسف وعن طرق الاستبداد واعتناق القواعد الديمقراطية في التعامل مع السلطة والمجتمع المدني.

لكن أين الشعراء والفنانين والمثقفين لنفهم جميعا ما يجري من حولنا؟

إن ما نخاف عليه اليوم هو أسلمة السياسة والدولة، خاصة بعد تعيين العديد من الأنصار في مراكز عالية ومهمة في القرار. فإن تنامي تأثير الحزب الحاكم ونتائجه المصنوعة الأخيرة، وشعاراته الشمولية وأحكامه المخيفة وعدم اعترافه بالديمقراطية وبالرأي الآخر، يدفعنا للنضال من أجل تحقيق الدولة الديمقراطية التي تتعرض لزحف الخطر الظلامي.

وإذا كان رفاق آخرون قد اختاروا أسلوبا آخر للدفاع عن الديمقراطية، فإن النضال المشتعل ضد الظلامية من داخل المؤسسات ومن خارجها هو نضال وطني تحرري وشجاعة روحها الإبداع والمبادرة.

يتبع...