الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد قواص:انتخابات المغرب..فوز السياسة وسقوط أصوات التدين

محمد قواص:انتخابات المغرب..فوز السياسة وسقوط أصوات التدين

لا نناقش الحيثيات البيتية التي قادت حزب العدالة والتنمية في المغرب إلى تحقيق ذلك الفوز المفاجئ في الانتخابات المحلية الأخيرة (4 سبتمبر الحالي)، فذلك شأن مغاربي يتداول بشأنه أهل المغرب الأدرى بشعابه، لكن الحدث يستحق منا عناية، ذلك أنه أتى خارج التوقعات ومنافيا لمنطق السياقات منذ انتهاء حكم الإخوان في مصر، مرورا إلى تراجعه في تونس، انتهاء بالإرباك الذي أصاب عرابيّ الإسلام السياسي في قطر وتركيا.

الانتخابات منحت حزب الأصالة والمعاصرة الصدارة (12.12 بالمئة) يليه حزب الاستقلال (16.22) ثم حزب العدالة والتنمية (15.94). لكن المفاجأة كانت في تقدم الحزب الأخير من حيث مضاعفته حصيلته الانتخابية بالمقارنة مع انتخابات عام 2009، ومن حيث حصوله على مليون ونصف المليون من حجم الكتلة الناخبة، وهو ما وضعه في المركز الأول من حيث عدد الأصوات.

بالنسبة لنا، يضيف الحدث المغربي مثالا آخر على أن السياسة ليست علما حسابيا من السهل توقعه، كما أنه يندرج ضمن مسلسل الاستثناء الذي ما برح المغرب يتميّز به. في التاريخ الحديث، تخلى الملك الحسن الثاني طواعية عن استبداد كليّ واختار التناوب والحياة البرلمانية، قبل تقليعة الربيع العربي بأقل من عقدين من الزمن. أتى ذلك المنعطف بالمعارضة الاشتراكية لحكم البلاد (1998)، فيما كانت الديكتاتوريات تنتشر حول المملكة، بما جعل من السلوك المغربي أمرا عصيّا على فهم الجيران.

تجدد السلوك الاستثنائي مع اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد (1999). كان بإمكان الملك الشاب أن يكتفي بفتح صفحة جديدة تعفيه من حكايات الماضي، لكنه آثر أن يفتح صفحات الحكم السابق، وما انتابها من انتهاكات وما سببته من ضحايا. كان لهيئة الإنصاف والمصالحة (تشكلت في يناير 2004) أن تحقق وتصدر تقريرا علنيا عن ممارسات لم تكن معروفة للمواطن العادي. وفق تلك المقاربة الشفافة الصريحة المباشرة بدأ الملك الجديد الحكم الجديد.

يعرف عبدالإله بنكيران وحزب العدالة والتنمية أن ارتقاءهما إلى قيادة الائتلاف الحكومي جاء بناء على معطيين أساسيين. الأول، أن التطوّر الدستوري جاء بعد تأثّر الشارع المغربي بأعراض الربيع العربي المتسربة من تونس ومصر، ورواج تحرّك شبابي (20 فبراير) لا علاقة للإسلام السياسي به (بل كان هذا الأخير ضده). والثاني، أن الإصلاح الدستوري جاء ملكيا ترسمه إرادة العاهل المغربي، والذي وجد في “صدفة” الحراك الشبابي مناسبة للدفع بإصلاحات كانت قيد الإعداد قبل ذلك “الربيع”. في الاستثناء المغربي أن إصلاحات الحسن الثاني أتت باليساريين إلى الحكم، حين كان اليسار يقلق المناخ الإقليمي، وأن إصلاحات محمد السادس أتت بالإسلاميين إلى الحكم، حين أصبحت الإسلاموية معضلة للمشهد الإقليمي العام. ولكن في الاستثناء المغربي أيضا، أن إسلاميي المغرب، بالطبعة التي يقدمها بنكيران وصحبه، آثروا، منذ زمن، قطع أي صلة لحزبهم بجماعة الإخوان المسلمين (بغضّ النظر عما إذا كان ذلك بنيويا أو ظرفيا)، وأخذوا مسافة واضحة من مآزق الجماعة في المنطقة، وتمسكوا بمغربية نشاطهم، حتى كاد الخطاب العقائدي للحزب أن يختفي، مقابل خطاب مفهوم (شعبوي أحيانا) يستخدم مفردات السياسة الواقعية وأساليبها.

كتب المعلقون المغاربة كثيرا في السعي لتفسير “مفاجأة” الانتخابات. وفي ما بين السطور يتضح أن الاستحقاق محليّ بيتي في تفاصيله ونتائجه، وأن سبب الوقوع في المفاجأة هو خطأ تناول الحدث الانتخابي المغربي في سياقات تتجاوز حدود المغرب. بدا أن تنصل حزب العدالة والتنمية من إسلاموية ما وراء الحدود، حصّنه من عدوى الإصابة بما أصاب الإسلام السياسي الإقليمي من خيبات وهزائم وإخفاقات. وبدا أن إفراط بنكيران وصحبة في تقديم خطاب محلي بيتي في تمارين الدفاع والهجوم منحهم مناعة التقاط آفات ينفخها الخارج.

لا يمثّل فوز حزب العدالة والتنمية إقرارا شعبيا بمنجزات الحزب التشريعية والحكومية. فجلّ التقييمات الموضوعية المحايدة تعتبر أن أداء الحزب الإداري في مراكز السلطة كان متواضعا، فيما يعتبره البعض فاشلا. لكن حزب بنكيران كان بإمكانه دائما، على ما يتسرب من تصريحات الرجل على الأقل، أن يبرر ارتباك أدائه إلى أنه لا يحكم وحده، بل داخل ائتلاف، وإلى أن نافذين في السلطة يعرقلون توجهاته، وإلى أن البراغماتية السياسية تفرض تسويات تأتي على حساب الغايات.

على هذا، يعود القسط الأساسي للفوز المفاجئ لحزب العدالة والتنمية إلى أزمة حقيقية أصابت التشكيلات الحزبية المنافسة، والتي على ما يبدو، لم تستوعب دروس الإصلاح الدستوري ونتائجه، وما زالت تتكل على رصيد تاريخي ينفذ ويتقادم. في ذلك أن التفسير المنطقي لهذا “التسونامي” عائد إلى عدم توفر عروض أخرى ذات مصداقية، وأن “العدالة والتنمية” قطف ثمار غياب الثمار أو تأخرها في حقول الآخرين.

يتقدم حزب العدالة والتنمية بشكل لافت في المدن الكبرى، فيما يتقدم خصمه حزب الأصالة والمعاصرة في الأرياف (المرتبة الأولى في انتخاب مجالس الجماعات). الأول يخترق الطبقة الوسطى، والثاني يخترق مغرب الداخل الأكثر التصاقا بالتقاليد الملكية. في تلك الظواهر ما يستحق دراسة لن تتوقف عندها هذه العجالة، لكن الثابت أيضا أن الرأي العام الانتخابي ما زال يميل إلى منح “الوجوه الجديدة” المتمثلة بحزب بنكيران فرصة إضافية (وأحيانا نكاية بأحزاب المعارضة التقليدية)، ذلك أن خطاب الحزب المكافح للفساد كما تواضع تجربته في الحكم حصنّه من شبهات لطالما التصقت بالأحزاب التاريخية الأخرى.

ولئن استفاد حزب العدالة والتنمية من محدودية فترة وجوده في الحكومة لينال وقتا إضافيا، فإن محدودية فترة وجود حزب الأصالة والمعاصرة (2008) ولبس هويته ما بين حديث وتقليدي، كما لبس اعتباره “حزب الدولة”، جعله في مواجهة صعبة مع الـ”بيجيدي”(حسب الاسم المتداول للعدالة والتنمية في المغرب)، مع التأكيد أنه المنافس الحقيقي الذي يقضّ مضجع بنكيران على ما تفصح تصريحاته العدائية ضده.

من حقّ عبدالإله بنكيران أن يفخر بما حققه حزبه إلى حدّ الغرور (يقول: “لم أعد أسأل عن عدد المدن التي فاز الحزب بها، وإنما عن أسماء المدن التي لم يفز فيها بالأغلبية”). لكن ذلك النصر قد يكون ثقيلا مربكا يشبه الهدايا المفخخة. فالمفاجأة لم تنل من خصوم الحزب فقط، بل اجتاحت الحزب نفسه الذي لم يخطط لفوز بهذا الحجم، لاسيما في “سقوط” مدن كبرى في يده (الرباط، الدار البيضاء، مراكش، فاس، مكناس، القنيطرة، سلا، طنجة، أكادير..)، ما من شأنه أن يداهم الحزب باستحقاقات غير محسوبة. من جهة ثانية، فإن الأداء التسييري الحكومي المرتبك للحزب (على حدّ تعبير المراقبين)، سيظهر أكثر وأكثر في إدارة شؤون الناس في البلديات والجهات، لما للسياسات المحلية من تأثير فوري ومباشر على يوميات المواطنين، على عكس السياسات الوزارية، الطويلة الأجل نسبيا.

على أي حال، وتجنبا لأي تسرّع في الحكم على أداء العدالة والتنمية، فإنه يجب التذكير بأن الاستحقاق الأخير هو تفصيل ضمن سيرورة طويلة في ممارسة السياسة والديمقراطية وفق الطبعات والإيقاعات المغربية، وأن النتائج “المفاجأة” ستحدث صدمة لدى مكوّنات المشهد السياسي برمته على نحو سيفرض تطورا في العقلية وأساليب الأداء كما فلسفة التحالفات. كما أن قانون الانتخابات الخاص بالجهات (التي ستمارس تجربة جديدة عبر صلاحيات جديدة خوّلها الدستور) والبلديات، يفرض منطق التآلف والتحالف ويمنع احتكار طرف للسلطة، على نحو يؤسس لتمارين جديدة في إنتاج السلطات المحلية.

على هامش الحدث وبعيد نتائجه، عجّلت أقلام إسلاموية عربية في التعبير عن الحدث بصفته انتصار لتيار الإسلام السياسي. في ذلك الزعم تبسيط يفصح عن مأزق واستغراق به، ذلك أن حزب العدالة والتنمية المغربي لا يعيد أمر الفوز إلى الطابع الإسلامي للحزب (على الرغم من تذكير انتهازي يستخدم أحيانا بحرج)، كما أن أمواج الأصوات الجديدة التي أضيفت إلى رصيد الحزب منذ التشريعيات، لم تتوفر بسبب إسلامية ذلك الحزب، ناهيك عن أن ذلك الجانب العقائدي، الغائب منذ زمن عن أدبيات الحزب، وغاب أكثر وأكثر عن حملاته الانتخابية، على نحو يؤكد أن الفوز مغربيّ محضّ، حصل لأسباب ذاتية مغربية، ولا يمكن أن تضيف رصيدا، ولو نظريا، للإسلام السياسي في المنطقة.

ولابد من التنبيه إلى خصوصيات تميّز بها أداء عبدالإله بنكيران وحزبه، وغابت عن أداء أحزاب ذات خلفية إسلامية في بلدان أخرى (مصر مثلا). أول تلك الخصوصيات تسليمهم الكليّ بالمؤسسة الملكية كقاعدة أساسية لاستقرار المجتمع المغربي ووحدته. في ذلك اتّسق حزب العدالة والتنمية مع ثابتة، هي قاعدة من قواعد الثقافة السياسية العريقة في المغرب، يستطيع أي زائر أن يتلمّسها بسرعة بمجرد الاحتكاك مع المغاربة. ثاني تلك الخصوصيات، أن بنكيران والحزب عملا، وبسبب التجربة الحكومية، إلى الابتعاد عن أي شبهة أسلمة للمجتمع، فدافعا عن مكتسبات ورموز وظواهر في بلد تروج داخله ثقافة وسطية منفتحة، وتزدهر في يومياته مهرجانات الثقافة والأدب والفكر والموسيقى، كما يستند بشكل كبير على تراث وتقاليد في الضيافة والسياحة (وهو امتحان جديد في كيفية تسيير بلديات مدن سياحية شهيرة مثل مراكش وفاس ومكناس..).

بكلمة أخرى، يعود فوز حزب العدالة والتنمية أساسا، إلى تمسك الحزب بثوابت المغرب ملكا وثقافة واقتصادا، وإلى العمل وفق عدّة الراهن لا الغرف من ماضوية غابرة، وإلى التقدم وفق إيقاعات متمهلة لم يربكها إلا التسونامي الراهن الذي سيحتاج، لاشك، إلى تصحيح يعيد للحزب كما للمغرب توازنا، يشبه البلاد روحا وسلوكا وتقاليد حكم.