تعددت ألوان الأحزاب وشعاراتها، وكذا رموزها، كثرت تجمعاتها وجولاتها، كما تناسلت وعودها. جميعها أسرفت في استخدام أدوات التسويف "س" و"سوف" لكأن المواطن من كوكب آخر لا يعرف حقيقة اختصاصات مجالس الجماعات الترابية، ومداها المحدود بنص القانون والمحكوم بنقص الموارد، أو كأنه لم يختبر تلك الوعود المعسولة من قبل في استحقاقات انتخابية سابقة تبخر معظمها مباشرة بعد إعلان النتائج.
ومع ذلك، فإن هذه الانتخابات جرت في سياق رهانات جديدة، وشد وجذب حادين بين أحزاب الأغلبية الحكومية ولا سيما الحزب القائد للحكومة، وبعض أحزاب المعارضة التي كانت تسعى إلى استنزافه، وفي ظل أوضاع أمنية عادية ومستقرة لم يعكر صفوها إلا بعض الممارسات الفردية والمنعزلة المرتبطة بالصراعات الشخصية نتيجة المصالح، وتغير المواقع أكثر منها بالصراعات الحزبية، وهي ممارسات وخروقات لم تؤثر في حقيقة النتائج المعلنة رغم حديث قيادات حزبية عما سمته انفلاتات خطيرة، ورغم كثرة التظلمات القضائية المرفوعة، وأعداد الموقوفين على ذمة قضايا انتخابية.
أكدت هذه الاستحقاقات أن المواطن المغربي أصبح معتادا كثيرا على التعامل مع صناديق الاقتراع، وعلى تتبع العملية الانتخابية بالتأييد بالنسبة للبعض وبالنقد بالنسبة للبعض الآخر، وعدم الاكتراث لطرف ثالث، وأيضا على ترقب النتائج للتعليق عليها أكثر من تعليق الآمال على الفائزين فيها. وقد أسفرت الانتخابات عن نتائج تجوز فيها كل القراءات حسب زاوية القراءة ومنظارها، ما يجعل كل الاستنتاجات ممكنة ومستساغة رغم اختلاف وجهات النظر.
كان الرهان الأساسي على نسبة المشاركة فجاءت متوسطة في حدود 53,67% ، وهي نسبة تدعو إلى ارتياح المشاركين والساهرين على العملية الانتخابية من الناحية التقنية والسياسية، معطية الفرصة في نفس الوقت لدعاة المقاطعة بتأويلها حسب منطقهم، وبما يخدم أطروحتهم. ولكن إجراء مقارنة بين نسبة المشاركة هذه، وبين نظيرتها في الانتخابات الجماعية لسنة 2009 فيه نوع من التعسف لاستحقاقات سنة 2015.
ويعود سبب هذا التعسف إلى أن انتخابات 2015 تضمنت الاقتراع على استحقاقين مختلفين الجماعي، وهو مألوف للمواطنين المغاربة منذ سنة 1960، والجهوي وهو أمر جديد على اللعبة السياسية المغربية. وقد كان ينبغي الفصل بينهما لعدة اعتبارات لعل أهمها:
*معرفة حقيقة الاهتمام الشعبي بكل استحقاق على حدة. فإذا كان المقصود بالجمع بينهما هو إحداث التأثير النفسي على الناخب ليصوت على نفس الهيئة الحزبية، فإن النتائج أثبتت وجود وعي تمييزي لدى الناخب، إذ أن الحزب الذي حصل على الرتبة الأولى في عدد المقاعد الجماعية ليس هو الذي احتل الصف الأول في عدد المقاعد الجهوية.
*ضرورة إعطاء الانتخابات الجهوية موقعا متميزا في دائرة الاهتمامات الوطنية لحداثة التجربة، التي يراد لها إحداث توازن بين الجهات وتعميق التضامن فيما بينها، ولارتباط تطبيقها بقضية الوحدة الترابية للمملكة، ناهيك عن أن الجهة أصبحت الحلقة الوسيطة بين البرلمان الوطني، وبين الجماعات المحلية.
إن هفوة الجمع بين الاستحقاقين بالشكل الذي أغمط حق الانتخابات الجهوية في الحظوة باهتمام شعبي وإعلامي كبيرين لم تثر ملاحظات أو انتقادات كثيرة، لأنه سرعان ما غطت عليها مجموعة من الممارسات المنتمية إلى عهود سابقة تأبى إحداث القطيعة المرجوة بموجب فلسفة دستور سنة 2011، التي تتوخى كما قال جلالة الملك "تحديث وعقلنة هياكل الدولة باعتماد إصلاحات جوهرية قائمة على الحكامة الترابية الجيدة..". وقد كانت أكثر هذه الممارسات إثارة للانتباه ما يلي :
/ حمى الترشيحات التي أبانت عن تهافت كبير بالإغراءات المادية والمالية والتهديدات المبطنة على الوجوه الشعبوية المعروفة بكثرة ترحالها بين اللوائح والأحزاب، وكأن الأمر يتعلق بميركاتو على غرار ذلك الذي تشهده الساحات الرياضية أو مراهنات الأحصنة بعيدا عن قواعد الكفاءة وأحيانا الانتماء للحزب والالتزام بمبادئه. وما تزال هذه الحمى المشينة مستشرية بعد إعلان النتائج لتأمين رئاسة زيد هنا، وإقصاء عمرو هناك بتحالفات هجينة بعيدا عن أدنى معايير الأخلاق السياسية، وأبرزها احترام إرادة الناخبين.
/ استمرار استعمال المال واستغلال النفوذ ودغدغة العواطف الدينية وتوظيف القرابات العائلية في استقطاب أصوات الناخبين، بعيدا عما كان مطلوبا من الأحزاب أن تقوم به، وهو "بلورة برامج انتخابية خلاقة وواقعية تستجيب للانشغالات الحقيقية للمواطنين"، باستثناء حملات لوائح قليلة كانت نظيفة وشفافة ومنسجمة مع الطموحات الوطنية، وظلت كذلك بعد صدور النتائج وفية لمسارها ومنسجمة مع قناعاتها.
/ تدني الخطاب السياسي قبل بدء الحملة الانتخابية نفسها، ثم سعاره إبانها بين قيادات الأحزاب التي أظهرت تمرسا كبيرا بقواميس السب والقذف، وشغفا لا حدود له بإلقاء التهم جزافا، سيما تهمة الفساد التي رددها الجميع دون التوفر على الجرأة السياسية والنزاهة الفكرية لعرضها على القضاء المختص لتأكيد التهمة أو دحضها، ما جعل الناخبون يشعرون وكأنهم هم الفاسدون والمفسدون، فيما المرشحون على اختلاف انتماءاتهم تقاة ورعون.
/ الانجرار في النقاش والجدال إلى الشعارات الفضفاضة الفارغة المحتوى والسياسات العامة ذات الطبيعة الوطنية الشاملة في ما يشبه المحاكمة من قبل المعارضة لسياسة الأغلبية الحكومية، وما يشبه البحث بالنسبة للحكومة عن التزكية الشعبية لبرامجها ، وذلك بدلا من التركيز على القضايا المحلية ذات الطابع الخدمي المرتبط بالحياة اليومية للمواطن في حيه ومدينته وما يريده من نظافة للشوارع وردم حفرها، وتوفير وسائل نقل عامة مريحة وغيرها.
ومما لا شك فيه، فإن هذه الممارسات، التي يعاقب عليها القانون هي "تعبير صارخ عن عدم احترام الناخبين". وإلا ما معنى أن يسحب المواطنون الثقة من حزب بمنحه أقل من 11% من 65 مقعد لأحد المجالس البلدية، ومع ذلك ينتظر أن يعود وكيل لائحته إلى رئاسة تلك البلدية، وما معنى أن يفشل وكيل لائحة على صعيد الجماعة المحلية التي ترشح فيها، ويجد نفسه ينافس بقوة على رئاسة الجهة كلها، وهي من أغنى جهات البلاد وأكبرها.
لقد كسب المواطن / الناخب مرة أخرى رهان المزايدات الذي أراد البعض حشره فيه، وذلك من خلال تغليب إرادته في الاختيار والتعبير عنها بحرية ضمير بدلا من الانصياع إلى سلطة الإغراءات المالية والوعود الدسمة خاصة في المدن الكبرى، ولكن يبدو أن الأحزاب بصدد التنكر لاختياراته مباشرة بعد إعلان النتائج ضاربة عرض الحائط بأبسط قواعد التعاقد الجديد وأبجديات تحالفاتها ولو تلك المرحلية، منطلقة في حملة مسعورة تساوم على صوت المواطن الذي كانت تتودد إليه من قبل، في خرق فج لأمانة الصوت الذي منح لها غير مستشعرة "جسامة الأمانة غير القابلة للمساومة".
إن الخلط الذي يجري على صعيد التكتلات المحلية والجهوية بعيدا عن التحالفات الحكومية وضدا على إرادة الناخبين يؤكد مجددا أن معظم الأحزاب السياسية باتت مجرد دكاكين للتزكية، ولم تعد مدارس للتربية الوطنية غير قادرة على القيام بالواجبات المنوطة بها دستوريا بموجب الفصل السابع، الذي يضع على عاتقها تأطير المواطنين وتكوينهم سياسيا وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وتدبير الشأن العام. كما يبرهن على عدم وعي بالدينامية المجتمعية والظروف الإقليمية والدولية التي جاء الدستور الجديد في سياقها على أمل أن يشكل قطيعة مع العديد من الممارسات المنتقدة في السابق كما بدا واضحا من الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011، الذي أكد على ضرورة تبني مراجعة دستورية عميقة وشاملة هدفها تحديث هياكل الدولة وتأهيلها، وترسيخ "دولة الحق والمؤسسات وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارستها".
إن الاضطرار إلى التحالف بأي شكل كان، وبأي ثمن، وحتى ضد الإرادة الشعبية، والائتلاف الحكومي المفترض أنه قائم على أساس برنامج مشترك وطني ومحلي، ناجم عن البلقنة التي تميز الحياة السياسية الداخلية بتناسل الأحزاب في معظم الحالات لاعتبارات شخصية ومصلحية وليست مبدئية إلا نادرا. وغير خاف أن هذا الاضطرار يكشف إحدى ثغرات الدستور الجديد، التي كانت قد تبدت من قبل في تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ الانتخابات التشريعية في نونبر 2011.
وتتمثل هذه الثغرة في غياب التنصيص دستوريا وقانونيا على نسبة معينة من أصوات الناخبين، التي يعتبر الحزب الذي لا يحققها منحلا من تلقاء ذاته، الأمر الذي سيدفع نحو تشكيل الائتلافات على قاعدة الحد الأدنى من التوجهات المشتركة، وبالتالي يمكنه المساهمة في ترشيد الساحة السياسية وترشيقها، كما سيعطي مصداقية أكثر للعمل الحزبي، ويؤهله لأن يقوم فعلا بدوره الدستوري كاملا غير منقوص.
إن توالي الممارسات المنفرة قبل الانتخابات وبعدها بشكل يستخف إلى حد كبير بالإرادة الشعبية كما عبرت عنها صناديق الاقتراع يعطي حجة للخطاب الذي يرى أن العملية الانتخابية مجرد مضيعة للوقت لا تقدم ولا تؤخر في حياة المواطنين ومعاناتهم اليومية، وأن المسار الديمقراطي في البلاد يعاني أزمة بنيوية تتطلب إصلاحا جوهريا للمنظومة السياسية برمتها قبل تغيير الوجوه المنضوية تحت عباءتها.
إن تزامن هذا الخطاب التشاؤمي، الذي يتداول بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي مع حراك مجتمعي متسارع على كافة المستويات، وخاصة الحقوقية والنقابية اليائسة من عقم الحوار الاجتماعي ووعوده الزائفة، ومع تنامي خطر التهديدات الإجرامية والإرهابية يدفع في اتجاه أن يغدو التساؤل مشروعا عن ماهية التغييرات، التي يكون الدستور الجديد للمملكة قد أحدثها في المجتمع وفي الحياة السياسية، سيما وأن ثغرات عديدة أخرى تعتريه كتلك الواردة في الفصل 47، الذي أعطى لجلالة الملك تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، دون الإشارة إلى رئيس الحزب أو أمينه العام. وقد تابعنا كيف أن حزب العدالة والتنمية قطع الطريق على أي محاولة لتجاوز أمينه العام بالإصرار على أنه مرشحه الوحيد للمنصب.
وكما هو معلوم، فإن ثغرة أخرى تبدت في ذات الفصل تتعلق بعدم تحديد مهلة زمنية للاستشارات الخاصة بتشكيل الحكومة، إضافة إلى عدم التحسب لإمكانية فشل الشخص المعين في تشكيلها، خاصة إذا لم يكن حزبه حاصلا على الأغلبية المطلقة كما كان الأمر في انتخابات نونبر 2011. وبما أن ذلك هو ما حصل في المغرب فقد اضطر السيد بن كيران خشية التسبب في أزمة دستورية مع انطلاقة العمل بالدستور إلى تركيب ائتلاف حكومي هجين جمع فيه العديد من المتناقضات على برنامج فضفاض قابل لكل التأويلات. ويبدو أن ذات السيناريو تجري استعادته حاليا على صعيد الجماعات والجهات.
واستنادا على العديد من الملاحظات المرتبطة بمضمون القوانين التنظيمية التي صدرت لتفسير بعض مقتضيات الدستور وتجسيدها على أرض الواقع، ومشاريع قوانين أخرى قيد الإعداد يتحدث البعض عن تراجع في مسلسل دمقرطة المجتمع، خصوصا وأن هذا المضمون يتنافى في بعض حيثياته وروح الدستور الهادفة إلى بناء نموذج ديمقراطي تنموي متميز يروم كما نص الفصل "ترسيخ العدالة الاجتماعية وتعزيز مقومات المواطنة الكريمة" على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، وأساس الديمقراطية المواطنة والتشاركية ومبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة ".
ومن شأن أمر كهذا خاصة ما تسرب عن وجود قيود كبيرة في مشروع القانون التنظيمي الخاص بتحديد شروط وكيفية ممارسة الحق في تقديم العرائض الشعبية إلى السلطات العمومية بإمكانها نسف مبدإ تعزيز الديمقراطية المباشرة والمواطنة التي اعتبرها الدستور من مرتكزاته الأساسية، إضافة إلى البطء الذي ميز إنجاز بعض القوانين التنظيمية الجوهرية ذات الصلة بالهوية الوطنية الواردة في الفصل الخامس أن يشيع الانطباع بصعوبة إن لم يكن باستحالة إحداث التغيير الحضاري والديمقراطي، وحينها لا عزاء لكل من يستصغر الشرر.