الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

العلامة الحسيني: عن نظرية ولاية الفقيه في الفقه الشيعي وتأثيرها على السياسة

العلامة الحسيني: عن نظرية ولاية الفقيه في الفقه الشيعي وتأثيرها على السياسة

أکثر من ثلاثة عقود قد مضى على تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية على ضوء نظرية ولاية الفقيه في إيران، ومازال الحديث والجدل يدور بقوة حول هذه النظرية سلبا وإيجابا، مع ملاحظة أن النظرة السلبية لها هي الغالبة لأنها بالأساس ليست بتلك النظرية التي تعتمد على أسس ومباني فقهية قوية ويعتد بها، بل إن هناك قلة آمنوا بها ناهيك عن أنها حديثة الظهور قياسا للتاريخ الإسلامي.

لقد جسّد مصطلح ولاية الفقيه العامة قمّة التسلط الثيوقراطي المطلق على البلاد والعباد.

لو نظرنا إليه بدقة وبحثنا في مختلف جوانبه، لوجدنا انه مصطلح حديث وطارئ على الفکر والفقه الشيعي.

والأخطر في ولاية الفقيه كمفهوم سياسي-فقهي انّه يعتبر نفسه عابرا للحدود ولم يرد يوماً أن يبقى محدوداً في إيران.

بموجب النظرية التي وضعها السيد الخميني بدقة، يحصل الولي الفقيه (الإيراني) على سلطات وصلاحيات مطلقة وواسعة جداً حيث أن هذه النظرية تعتبر حکومة ولاية الفقيه هي شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.

فالولي الفقيه فوق الدستور والقوانين الوضعية، وقراراته تعتبر قوانين إلهية واجبة التنفيذ.

وکما هو معروف، فإن الشيعة طوال القرون المنصرمة كانوا يعتقدون بأن للفقهاء ولاية تتعلق بأمور الإفتاء والأموال وأمثالها من المسائل الفقهية البحتة ولا علاقة لها بالأمور السياسية، وذلك استنادا إلى ما قد نقل عن الإمام المنتظر (عج) حيث قال: "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"...

ولاية الفقيه في المذهب الشيعي والتي تفتقد إلى أي سند فقهي معتبر، تشبه نظرية (الحاکمية لله) عند جماعة الإخوان المسلمين في المذهب السني، وأساس هذه النظرية يرتکز على أنه لابد للأمة الإسلامية من إمام على أساس موقف الإمام علي بن أبي طالب "ع" ضد الخوارج عندما رفع أتباع معاوية بن أبي سفيان المصاحف في حرب صفين وأطلقوا مقولتهم الشهيرة (لا حکم إلا لله)، وطالبوا أن يحتکموا إلى القرآن، فرد عليهم الإمام بقوله المشهور الذي ذهب مثلا (کلمة حق يراد بها باطل).

وإن القرآن لا يحكم بحد ذاته وإنما من خلال البشر ولابد للرعية من إمام، وهذا الأمر تلاقفه الآراكي والخميني وخامنئي وبنوا عليه ما يرونه الحق والصواب، والذي يجب أن ننتبه إليه هنا هو أن الولي الفقيه يملك سلطة دينية-سياسية مطلقة ويعتبر نائبا للإمام المهدي في غيبته وطاعته واجبة على الأمة الإسلامية جميعا (کما ترى هذه النظرية)، والحقيقة أن ولاية الفقيه الخمينية هي مطلقة وتتلخص في أن السيد الخميني أو من يخلفه في منصبه، كمرشد للثورة الإسلامية في إيران، هو ولي أمر كافة المسلمين في العالم، وطاعته واجبة كطاعة الإمام المهدي المنتظر لأنه نائبه ولا يجوز مخالفته.

وقال السيد الخميني أن الأدلة التي تدل على وجوب الإمامة هي نفس الأدلة التي تدل على وجوب ولاية الفقيه، وأنها من الأمور الاعتبارية العقلانية، وذلك كجعل القيم للصغار، وأن القيم على الأمة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة "کما يرى الخميني في کتابه الحکومة الاسلامية".

ومن المهم جدا الإشارة إلى معارضي نظرية ولاية الفقيه الخمينية حيث أجمع معظم فقهاء الشيعة في النجف على رفضها ومعارضتها، ومنهم: السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد الشيرازي.

والأحياء منهم مثل: السيد علي السيستاني، والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخ إسحاق فياض، والشيخ بشير النجفي.

والمعارضون من فقهاء الشيعة في لبنان من الأموات والأحياء هم، السيد محسن الأمين، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد موسى الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ محمد مهدي شمس الدين.

أما آية الله السيد محمد حسين فضل الله، فقد أيد الخميني في البداية في ولاية الفقيه، ولكنه تراجع فيما بعد وقال "بتعدد ولايات الأمر" أو "تعدد القيادة الإسلامية في عصر الغيبة"، ولذلك حورب من قبل حزب الله في لبنان الذي يؤمن بولاية الفقيه.

وكذلك السيد محمد الحسيني الشيرازي وآية الله العظمى السيد شريعتمداري إلى حد أن اتهمه الخميني بالردة عن الإسلام، لکن الأمر الذي يثير الانتباه و الملاحظة أن حفيد الخميني، وهو عالم دين بدرجة آية الله من أشد المعارضين لنظرية ولاية الفقيه وزج الدين بالسياسة.

وبالرغم من أن الكثير من علماء الشيعة لم يقولوا بالولاية العامة وإنما الخاصة، فهذا المصطلح البدعة الذي أعطي لولي الفقيه كل الحقوق والصلاحيات، كالتسلط على الأمة وفق مبدأ أن حكمه هو حكم الله، ورضاه هو رضا الله، ﻻ يستند إلى أي مدرك شرعي متين  كمَن يعيدنا إلى السجون العتيقة البالية في وقت يجب إخراج الفتاوى من الصراعات السياسية. ولاية الفقيه من خلال التطبيق العملي لها على يد ولاة طهران لم تعد نظرية دينية تسعى لمنح الشرعية لنظام حاكم بعينه، بقدر ما أضحت أداة لإدارة حركة صراع على النفوذ السياسي في مواجهة تهديد حقيقي لمصالح من ابتكرها ويستعملها حالياً.

في سوريا مثلاً، كان الواجب الإنساني والمنطقي يفرض علينا أن نقف مع المظلوم أي الشعب السوري وأن نكون عوناً له في وجه الظالم أي نظام الأسد الحاكم.

ومع ذلك، أجج نظام الملالي الصراع في سوريا وحوله من ثورة إنسانية تطالب بقضايا حقوقية إلى صراع إيديولوجي استعمل فيه الولي الفقيه كل وسائطه الإعلامية والتعبوية لحشد الشيعة دفاعاً عن هذا النظام الظالم.

لقد اقنع الولي الفقيه شرائح واسعة من الشيعة من أفغانستان إلى العراق ولبنان مروراً بإيران وغيرها من الدول أن المستهدف في سوريا هو النفوذ الشيعي والمراقد المقدسة، وهذه شعارات لا يمكن إلا أن تحمّس أي مؤمن وتحفز جمهور الشيعة، كي يدافع عن المصالح الاستراتيجية لطهران في غرب المتوسط.

وفي مثال لبنان، نجحت الرؤية الإيرانية المستندة إلى ولاية الفقيه بفعل واقع ضعف الدولة القائمة والتي سمحت لمليشيات طهران بالإمساك بقرار الجانب الأكبر من الشيعة بفعل المسوغ الديني. وقد عملت الأحزاب الموالية لإيران لخطف قرار الشيعة العرب مع العلم أنّ جوهر الصراع الحالي القائم في لبنان والمنطقة هو سياسي ولا ينطلق من المذاهب.

كل من تبنى ولاية الفقيه بنموذجها الإيراني قام بإدخالها إلى ثقافة الشيعة في لبنان، ودمج ذلك مع جملة مصالح آنية ومادية أغرت فئات واسعة وضمتهم إلى منظومة طهران.

أما في اليمن نشهد استغلالا واضحاً لخصوصية دينية مميزة مردّها الى الإيمان العميق بالعقيدة المهدوية عند الطائفة الشيعية؛ فبحسب هذه الرؤية الدينية جاء انقلاب عبد الملك الحوثي بمثابة عمل حق.

وقد استثمر الولي الفقيه هذا المفهوم لصالحه كي ينشر الأمر على أنّه بشرى دينية لقرب ظهور الإمام المنتظر (عج) المرتبط بظهور اليماني.

وبالتالي فإن ما يجري في اليمن يشكل لهم بالإضافة لأحداث العراق وسوريا علامات حتميّة تتعلق بالتمهيد لخروج «المهدي المنتظر» المرتبط أيضاً بخروج «الخرساني» أي علي الخامنئي في إيران. إن استغلال هذا الإيمان تم ربطه بضرورة إسقاط الحكم في السعودية الذي تراه إيران عائقاً أساسياً أمام تمددها في أنحاء الجزيرة وبسطها للنفوذ على الحرمين الشريفين في الحجاز ما يعطيها مسوغات إضافية للادعاء أنها مرجعية سياسية ودينية للمسلمين أجمعين.

وهذا لا يخرج عن سلوك إيران فيما يخص القضية الفلسطينية التي دأبت جاهدة على تحويل بيت المقدس الى رافعة لمشروعها.

ونحن نذكر الجميع كيف قام السيد الخميني وخليفته وتحت شعار يوم القدس والموت لإسرائيل، بتكوين مجموعات قتالية تعمل بوحي منه ولصالحه.

ومع ذلك نرى حتى الآن أن النظام الملالي في طهران لم يرمي بصاروخ أو رصاصة على إسرائيل .حتى في الداخل الإيراني، سوّق النظام السياسي لولاية الفقيه وباتت أداةً للحفاظ على تماسكه من خلال أيديولوجية ابتكرها الإمام الخميني ساعدته على تغطية الحرب الدموية مع العراق.

وإن استمر النقاش قائماً حول ولاية الفقيه فإنّ الزعامة السياسية والروحية الكاريزماتية للخميني قد ساعدته على ترسيخها بالرغم من طغيانه.

وقد جاء السيد الخامنئي ليرث الخميني بولاية الفقيه بقدر ما ورثه لجهة الطغيان على أنه وسّعها لتنتقل الى حدود أبعد من حدود الجمهوريه الإسلامية.

خلاصة القول:

"بدعة ولاية الفقيه العامة هي أنّها نظرية فقهية مستحدثة أُلصقت بالشيعة الإمامية الإثني عشرية، بل وألحقت بها كل من استطاعت الوصول اليهم من علويين وزيديين. وقد أثبتت هذه النظرية-البدعة طوال ثلاثة عقود من عمرها بأنها تغطي سياسة قمعية استبدادية تقوم على إقصاء العقل ورفض الآخر والتسلط المطلق على حياة الإنسان بحجة الدين و الدين منه براء".

انطلاقاً من كل ما ذكرناه آنفاً، ندعو الشيعة أياً كان لسانهم أو لغتهم أو هويتهم الوطنية واقتضاءً بكلام جدي الإمام الحسين بن علي (ع) "كونوا أحرارا في دنياكم". ولا تذعنوا لنظام ولاية الفقيه في إيران الذي يريد أن يرجعكم إلى الجاهلية، ويتسلط عليكم ويستغلكم ويستعبدكم وقد خلقكم الله أحراراً.

إن خروجكم وفك قيدكم وتحريركم من سجن نظام ولاية الفقيه في إيران وأتباعه، في لبنان والسعودية والبحرين والكويت والإمارات وقطر واليمن والعراق وسوريا، هو واجب شرعي عليكم، وهو يتوقف عليكم وحدكم وفق ما جاء في الآية الكريمة "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ."