الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عمر المدن: عن "قاهرة الظلام".. أحدثكم !

عمر المدن: عن "قاهرة الظلام".. أحدثكم !

"لا أطلب من ربي

إلا شيئين

أن يحفظ  هاتين العينين

ويزيد بأيامي يومين

كي اكتب شعرا

في هاتين اللؤلؤتين" (نزار قباني)

ما يعرفه أغلب الناس عن العين البشرية -وشخصي أحدهم- أنها تمكننا من الاستمتاع برؤية الطبيعة، وأحب الناس إلينا، وباقي الأشياء الأخرى، جميلها وقبيحها، وما يتبع ذلك من هتكها للأسرار، والخصوصيات، والمكنونات.. غير أننا، عندما نتأمل صورة تشريحية بالراديو للعين، سنصاب بالذهول، وستبدو لنا كما لو كانت مجرد بويضة تحوم حولها حيوانات منوية، بغية اختراقها!.. فهل نحن  نحافظ ، فعلا، على هذا العضو الثمين؟

عذرا، معشر القراء الأعزاء.. ما سأقوله تباعا، في هذه الخاطرة، ليس ركوب لمنطق أناني، أو إشادة لذاتي المريضة، ولا مديح، أو تزلف لطبيب، أو طبيبة، بقدر ما هو نتف عن "تجربة شخصية" واعتراف بنوع من الجميل -لا أقل ولا أكثر- يتجاوز الأمور المادية، وأتعاب الأطباء، والمصاريف العلاجية الأخرى، إلى التعبير عن لحظة فرح أسطوري، تغمر أي شخص، كان يحسب نفسه أنه بات في عداد العميان، فإذا به، فجأة  يسترد بصره، ويخرج "من الظلمات إلى النور".. ونعمة مثل هذه، يستعيدها إنسان كفيف،  لا تقاس بثمن، وخارج أي سعر، أو مقايضة.

بالطبع، الحديث هنا، يهم طبيبة عيون، ذاع صيتها، تعمل بإحدى المصحات، ويحكى الكثير عن أعمالها الجليلة تجاه المرضى الذين عالجتهم. صحيح أن بعض زوارها، الذين يتوجهون إليها، لغرض فحصهم، عادة ما يكونون متوترين، وقلقين، وهم ينتظرون استقبالها لهم، وربما يأخذ ذلك وقتا طويلا من يومهم.. غير أنها، وبعد أن تستقبل أحدهم، وتدقق في العلة التي يشكو منها، وبالتالي علاجه منها لاحقا، سرعان ما يدرك، هو وغيره، أن وقت انتظارهم ذاك، لم يذهب سدى، وأن اهتمام الطبيبة، يكون مركزا على المريض الذي بين يديها، أكثر من الحشد المنتظر لها.

بالنسبة لي، ومثل باقي المرضى، وبحكم أنني أشكو من نفس العلة، فقد استقبلتني الطبيبة إياها، مشكورة، وخصتني بعدة فحوص، انتهت بالاتفاق على تاريخ معين لإجراء العملية.

في اليوم المقرر، أنزلوني إلى قاعة فسيحة، بطابق تحت أرضي، تتوزع فيه عدة حجرات زجاجية، متداخلة فيما بينها، شبيهة بمغارات، وسراديب، وقصور ألف ليلة وليلة، تصلح أن يصدح فيها صباح فخري، وميادة الحناوي وجورج وسوف ـشفاه الله- ولم لا، أيضا، الفقيدان بوشعيب البيضاوي، وناظم الغزالي، إذا أمكن لهما الحضور من العالم الآخر؟! وكم تمنيت -شخصيا- في الأيام الخوالي، أن يكون لدي مأوى سريالي مثل هذا، بأبعاده الأربعة  كله مرايا، ومتاهات، تنتهي  إلى شاطئ غرائبي، تحرسه عرائس البحر، أستحم فيه لبرهة، ثم أعود أدراجي، بدون تلصص من أحد، أو البحث عن ورقة يقطين، أتستر بها، مثل ما فعل أبونا آدم ، عندما طرد من نعائم الفردوس !

بدا لي هذا الاستيهام، الشبيه بالهذيان، (رغم أنني كنت في كامل وعيي، ولم أكن "مبنج"، أو "مقرقب" حتى!).. والفريق الطبي، يضع "اللمسات الأخيرة" لاكتساح بِؤرة عيني، واقتلاع ما فيها من تلوث، يحجب عني الرؤيا. كل هذا، في سكون مطبق، وهدوء كامل.. خلالها كنت أحس بالمحاليل، وهي باردة، تتدفق بصفة متوالية، داخل أمواج عيني المريضة، في راحة تامة، وبدون الشعور بأي وخز، أو ما شابه. وكان هذا يترافق مع حديث، ودردشات، بين الطبيبة المعالجة، وفريقها، فسرقت أذني كلام عفوي عن فائدة الفسح، وإجازات الصيف، ومتعة الرحلات، وفضيلة الاصطياف بشاطئ البحر، عوض الجبل، وكيفية صنع، وتحضير الفطائر، خلال رمضان.. من مسمن، وبغرير، وغيره !

أرأيتم، كيف جرنا الكلام عن أمور أخرى، بدلا من حصر الحديث عن  فتنة العين، وعشها العنكبوتي، المتكون من خلايا، وأوعية، وشعيرات دموية، غاية في الصغر والتعقيد، إلى حد أنه يمكنك تفكيك علبة تلفونات، تضم ملايين الأسلاك، بيسر واطمئنان، فكيف ببؤبؤ، من الصعب الغوص في قراره، إلا من منحه الله علما، ينفع به الناس، مثل ما يفعل عموم أطباء العيون.

وإذن، هي رحلة علاج، جد مختصرة، انتهت بخير والحمد لله.. فألف شكر، وألف تحية، إلى البروفيسور حسناء العماري، وفريقها الملائكي، على تحملهم، وصبرهم، وتفانيهم في خدمة المرضى، وتوفير الرعاية الصحية لهم، إلى حين شفائهم.