Friday 1 August 2025
كتاب الرأي

بنرهو مصطفى: ثقافة تكريس التطوع.. قوة مجتمعية متجددة

 
بنرهو مصطفى: ثقافة تكريس التطوع.. قوة مجتمعية متجددة بنرهو مصطفى
يُعتبر العمل التطوعي أحد الأوراش الكبرى التي يجب العمل على تنميتها وترسيخها، باعتباره آلية لضمان مشاركة فعالة للشباب في مسارات التنمية، ورافعة لتعزيز مواطنتهم وتقوية قدراتهم ومهاراتهم. فهو في جوهره ليس فقط فعلاً اجتماعياً تضامنياً، بل يُعد أيضاً هوية جوهرية للمجتمع المدني. ويقوم العمل التطوعي على مبدأ الإرادة الحرة دون مقابل مادي، بهدف تحقيق مصلحة عامة أو تقديم خدمة إنسانية أو اجتماعية أو تنموية لفائدة الآخرين.
 
ويتجاوز التطوع كونه مجرد نشاط خيري ظرفي، بل هو دينامية اجتماعية تُجسد أرقى أشكال التعاون والتكافل، وتعكس وعي المواطن بمسؤوليته داخل مجتمعه وانتمائه إليه. بل تحوله إلى قوة فاعلة في الحقل العمومي، وأداة لبناء الوعي الجماعي والمواطنة الحقة، وقد أقرّ الدستور المغربي للمرة الأولى بدور المجتمع المدني ووظائفه، مما عزز من موقع العمل التطوعي كأداة فاعلة في تكريس الديمقراطية التشاركية، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتعزيز قيم حقوق الإنسان والمواطنة المسؤولة.
 
ويُعتبر الالتزام إحدى السمات الأساسية التي تميز الفعل التطوعي، حيث يشمل هذا الالتزام ثلاثة أبعاد: الالتزام إزاء الذات، إذ يدرك المتطوع أن انخراطه ينبع من قناعة شخصية ومسؤولية ذاتية؛ ليس بدافع الإغراءات المعلنة والدعائية لاستمالة دافعيته للانخراط في برنامج ما، والالتزام إزاء المجتمع عن وعي وقناعة، عبر المساهمة الفعالة في تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال مبادرات تطوعية ملموسة وليس شكلية؛ ثم الالتزام في إطار جماعي يقتضي التنظيم والتخطيط واحترام مبادئ العمل الجماعي. وفي هذا الإطار لما لا نستحضر التجارب الرائدة المغربية كطريق الوحدة التي تجسد المعاني الحقيقية لفعل التطوع ونجعل شباب اليوم يعيش تجربته الخاصة من خلال تنظيم برامج جهوية او اقليمية تعبئهم في إطار اوراش محددة بعناية لخدمة الصالح العام بمشاركة مكثفة للمتطوعين على غرار برامج الاوراش كما هو متعارف عليها: صباحا انجاز الأشغال الميدانية او المهام التطبيقية والفترة المسائية تخصص لورشات التكوين والدروس النظرية في تعزيز مواطنة الشباب، لان التطوع لا ينفصل عن مبدأ المواطنة، بل يُعد أحد تمظهراتها. فالمتطوع هو مواطن فاعل يتصرف بوعي وينخرط في الحياة العامة بشكل عقلاني، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار منظم، حيث تتوفر آليات واضحة لمأسسة العمل التطوعي وتطويره، بما يجعله أداة للتغيير الاجتماعي ورافعة للتنمية. كما يجب ان نرسخ في ثقافة الشباب وعبر هذه الإنجازات انه يساهم ويشارك بفعالية باسم اوراش الشباب في خدمة الصالح العام التي يجب ان تظل مفتوحة على مبادرات أخرى مستمرة ودائمة.
 
ومع تصاعد أدوار الهيئات التطوعية، بات من الضروري تطوير الإطار القانوني والمؤسساتي الذي يؤطرها، مع إرساء آليات لقياس أثر العمل التطوعي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. إذ ما زالت البنيات الإحصائية المتعلقة بهذه الظاهرة محدودة، ولا توجد آلية وطنية واضحة لرصد مساهمة المتطوعين في الناتج الداخلي الخام.
 
ولترسيخ هذه الثقافة يتطلب توفير بيئة مؤسساتية وقانونية ملائمة، قائمة على إدماج التطوع في السياسات العمومية، وتعبئة الوعي المجتمعي بأهميته، وليس الاكتفاء فقط بأنشطة اشعاعية محدودة في الزمان والمكان بكلفة مالية دون احداث الوقع الإيجابي لتنمية ثقافة التطوع، وخلق آليات للدعم المالي والتقني للجمعيات والمبادرات، وإشراك القطاع الخاص في تعزيز هذا العمل باعتباره جزءاً من مسؤوليته الاجتماعية. ومن الضروري كذلك تحديد أولويات استراتيجية، تشمل نشر الوعي التطوعي، وبناء قدرات الأفراد والمؤسسات، وإصلاح القوانين المنظمة لهذا المجال، مع التوزيع العادل للفرص والموارد التطوعية على مختلف الجهات، وتفعيل أنظمة لتقييم الأنشطة وتتبع أثرها.
 
ولأن التشريعات تشكل رافعة أساسية في تعزيز العمل التطوعي، فقد أظهرت تجارب دولية – كما جاء في قرار الجمعية
العامة للأمم المتحدة لسنة 2001 – أن وجود قانون إطار واضح وشامل يُعدّ مدخلاً لتوسيع نطاق الممارسة التطوعية
وإدماجها في السياسات العامة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إصدار قانون مغربي خاص بالتطوع، يعترف بدور المتطوعين،
 
ويضمن حرية المبادرة، ويرفع العراقيل البيروقراطية التي تواجه الجمعيات والمبادرات الحرة، دون أن يتحول إلى أداة لتقييد أو تقنين الالتزام الطوعي بشكل مفرط. وفي هذا السياق، تضطلع الحكومة بدور حاسم في مواكبة وتيسير المبادرات التطوعية، عبر دعم جمعيات المجتمع المدني، وتنسيق أدوار المتدخلين، وتقديم المساعدة التقنية والتكوينية، مع ضمان الانفتاح على جميع الفئات الاجتماعية، وتحفيزها على الانخراط في العمل الطوعي دون تمييز. بذل ان تتحول الى وكالة لتنظيم الأنشطة نيابة عن الجمعيات، كما أن الاعتراف المؤسسي بمساهمة المتطوعين يجب أن يتجلى في إجراءات ملموسة، كاعتماد التطوع ضمن معايير الولوج للوظيفة، والتنويه بالجهود من خلال جوائز وطنية، والإعلان عن يوم وطني للاحتفاء بالتطوع، فضلاً عن إدراجه في المقررات الدراسية من الابتدائي إلى التعليم العالي. ويمكن كذلك التفكير في إحداث مرصد وطني للتطوع يُعنى بتتبع واقع الممارسة وتحليل أثرها على التنمية البشرية، وتشجيع تنظيم أوراش موضوعاتية في المناطق الهشة، بهدف تعميم قيم التضامن والتماسك الاجتماعي. وتواجه حركة التطوع في المغرب مجموعة من التحديات، من أبرزها غياب رؤية استراتيجية واضحة، واستغلال بعض الأشخاص للعمل التطوعي كوسيلة لتحقيق مكاسب اجتماعية أو سياسية، فضلاً عن التفاوتات المجالية في انتشار الجمعيات والبرامج التطوعية.
 
ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز العمل التطوعي يتطلب استثمار الوعي الجماعي بقيم التضامن والانخراط، وترسيخ ثقافة التطوع منذ سن مبكرة، من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وتحفيز الإعلام على المساهمة في بناء صورة إيجابية للتطوع، مع اعتبار المتطوعين رصيداً بشرياً قيّماً ينبغي دعمه وتأطيره.
 
كما أن الدولة مطالبة بالقيام بدورها في التنشيط والدعم، من خلال وضع إستراتيجية وطنية للنهوض بالعمل التطوعي، وإحداث مراكز وهيئات وطنية متخصصة، وتحفيز المجتمع المدني على تبني برامج تطوعية منتظمة تستجيب لحاجيات الفئات الهشة والمجالات الترابية الأقل حظاً.
 
ويُقترح في هذا الإطار إطلاق مبادرة وطنية للتطوع من أجل التنمية، تقوم على تنظيم أنشطة محلية تُراعي الكفاءات
والإمكانات، وتستجيب لأولويات المجتمع المحلي، ويساهم في تأسيس بنك وطني للتطوع، وتكوين مدرسة وطنية شبابية تُعنى بتعلم المهارات الحياتية وتعزيز الانتماء الوطني، بما يُحوّل التطوع إلى قوة اقتراحية فاعلة ومؤثرة.
 
في الختام، يبقى العمل التطوعي حجر الزاوية في بناء مجتمع متماسك، متضامن، وفاعل، وهو استثمار طويل الأمد في
الرأسمال البشري والاجتماعي، يجب أن يُؤطر بقوانين مرنة، واستراتيجيات مندمجة، وإرادة جماعية تؤمن بقيمة الإنسان كمحور لكل تنمية.
 
لذا فترسيخ ثقافة التطوع بالمغرب يستوجب الاشتغال على مجموعة من المحاور المتداخلة، في مقدمتها التربية والتنشئة
الاجتماعية، باعتبارهما مفتاحًا أساسياً لإحداث التحول القيمي والسلوكي المطلوب. فالثقافة تُعدّ قاعدة وهدفاً لكل تقدم اقتصادي واجتماعي، ما يفرض دمج قيم التطوع في الفضاءات التربوية والثقافية، وتكثيف المبادرات التي تُشرك الفئات الشابة في مشاريع ذات بعد إنساني وتنموي. ويمكن حصر أبرز الآليات لنشر ثقافة التطوع في خمسة عناصر أساسية، وهي الأسرة التي تُعدّ النواة الأولى لغرس قيم العطاء، والمدرسة التي تؤدي دوراً محورياً في التربية على المشاركة والمسؤولية، ومؤسسات الوقت الحر كفضاءات للتدريب العملي على المواطنة، والجمعيات التي تضطلع بتنظيم وتأطير المتطوعين، إضافة إلى الإعلام الرقمي الذي يساهم في الترويج لصورة إيجابية عن التطوع في المجتمع. كما أن للمساجد دوراً مكملاً في إشاعة الوعي التطوعي من خلال الخطاب الديني الذي يحث على خدمة الصالح العام.
 
إن تكريس ثقافة التطوع في المغرب لم يعد مسألة اختيارية هامشية، او حصرها في تقديم شهادة الحضور لتظاهرة باسم التطوع، بل يمثل ضرورة حيوية من أجل بناء مجتمع متضامن ومتفاعل، قادر على رفع التحديات التنموية، وتعزيز قيم المواطنة الفعالة والعدالة الاجتماعية. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تعبئة جماعية، ومقاربة شاملة، تتقاطع فيها الإرادة السياسية، والانخراط المدني، والدعم المؤسساتي المستدام.