السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: تدبير الحقل الديني في إفريقيا!

عبد الحميد جماهري: تدبير الحقل الديني في إفريقيا!

يدرك أحمد التوفيق، المؤرخ قبل الوزير، أن يوم الاثنين الماضي، لم يكن يوما عاديا في تاريخ التدين المغربي، بعلاقته بإفريقيا. ويدرك بأنه وجد نفسه على رأس مؤسسة من نوع خاص، في لحظة خاصة وفي تاريخ خاص، تتجاوز فيه قضية إنشاء المؤسسة الإفريقية للعلماء، مهام التدبير الإداري والمؤسساتي للعلاقة مع القارة السمراء، إلى تدبير الحقل الديني، في امتداداته القارية، وظروفه العامة دوليا. يدرك أيضا أن الحقل الديني المغربي اتسع الآن، وتوسع إلى حدود نيجيريا والكوت ديفوار، في استعادة لإشعاع خلق قوس التدين، انطلاقا من عواصم المغرب القديمة (فاس ومراكش..).

لا شك أنه يذكر قولة نابليون بونابارت، وهو يقف أمام أهرامات الجيزة، "أيها الجنود، من أعلى 40 قرنا، تتأملكم هذه الأهرامات".. وهو على رأس ستة قرون من التدين المغربي، يدرك أن البلاد الوحيدة المرشحة لأن تكون في الموقع ذاته، لافتتاح دورة جديدة في الإسلام الإفريقي، هي المغرب. وهذا الإسلام، جدلا، لكن يكون في القرن الواحد والعشرين إلا مغربيا أو لا يكون.

لا حاجة للوقوف طويلا، في هذه العجالة أمام التاريخ، الديبلوماسي والتجاري والعلمي، ولكن من المرجح أنه، أي التاريخ، يستند إلى سوسيولوجيا جديدة، تقدم الرد الصوفي، والمالكي والأشعري على ما تطرحه ظروف جديدة للغاية في المنطقة، وإن كانت عناوينها في التطرف والانغلاق سبق أن كانت رائجة في المنطقة، من الجنوب الصحراوي إلى عمق إفريقيا ..

الحاجة إلى «استيراد» التدين المغربي هي اليوم من صميم تدبير ما بعد انفجار الهوية الإسلامية القاتلة، كما عرفتها نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد، واشتعال مناطق التواجد الإسلامي كلها.

ولم يحدث أن كانت الخريطة الروحية، والعقدية والثقافية متطابقة، إلى حد الاشتعال كما هي اليوم، مع الخارطة السياسية والجغرافيا للعالم الإسلامي. ففي بلدان الشرق، والحوض المتوسطي وأعماق إفريقيا، ترفع المصاحف، والكلاشنيكوف، تحت راية واحدة هي الإسلام. ولذلك تكون المالكية، عبر تحيين وظيفتها، نوعا "من القومية الإفريقية"، بعد أن كانت في لحظة من اللحظات "قومية مغاربية"، عملت كسورا في وجه التموجات الحارقة والغليان السياسي القادم من الشرق..

تغيرات كثيرة حدثت، فحولت جنوب الصحراء إلى امتداد للشرق، في «نزوعه الخارجي»، وكان ضرورة تحيين الجواب، عبر التسويق الميداني والمنتج لإسلام الأنوار، الذي استطاع أن يوفر الاجتهاد المطلوب، في تطوير العلاقة مع الدين.. فليس التدين، نزوع حيادي نحو السلام الداخلي (عبر الأشعرية أو عبر تصوف الجنيد)، بل هو أيضا مجهود اجتهادي كبير لإيجاد الجواب على كل ما يطرأ، بقوة على المجتمع والفرد. ومن هنا، فإن العلاقة هي أيضا تقديم الاجتهاد في قضايانا المركبة والخلافية (المرأة، حرية المعتقد، الحقوق الإنسانية المتعارف عليها دوليا.. إعادة النظر في الكثير من الحدود، كالإعدام، ووقف التوجه نحو التطبيق القمعي للفقه في حدود الزنا والسرقة..الخ)، ثم في رسم التعايش مع التدين الآخر، يهوديا أو مسيحيا مع تنامي النزعات التكفيرية والإجرامية (التطهير العقدي في إفريقيا والشرق كنماذج).

وخلاصة ذلك أن المؤسسة تكريس نهائي لمجهود المغرب، وإمارة المؤمنين في استحضار المذهب المالكي، "كتجاوز لاهوتي سياسي" بلغة الأستاذ حسن أوريد، لنزعة المشرق في فرض ثنائياته القاتلة والتي خلفت الإرث الدموي للعالم الإسلامي..

الرسالة إلى الداخل، في التركيز الذي يتم ضد مؤسسة الإمارة من الدعاة المناضلين (فقهاء السلاطين وتقزيمهم وتبخيس وجودهم من طرف الدعاة الحزبيين).

في القراءة أيضا، البعد المتعلق بتدبير الحقل الديني بعد «الربيع العربي»، خاصة، كما سبق ذكر ذلك في مناسبات سابقة وأن النموذج الذي كان التحضير يقوم علي تعميمه، بعد ضربات 11 شتنبر، هو نموذج "الإسلام الحركي"، كما عمدته تجربة الإسلام السياسي، كجواب "سياسي لاهوتي" عن التطرف، واتضح أن ذلك المقترح لم يقدم العرض، الميداني القوي والمتمرس الذي بإمكانه أن يغري بقوة الإقناع والإشعاع وقوة التجربة، وأيضا بقوة الإنجاز. بل كان عنصر توتر وانفجار في المنطقة برمتها.

والتحرك المغربي في قوس التوتر الحالي وفضاء الدم وإماراته (بوكو حرام وداعش أفارقة) بتونس وليبيا ومرورا بغينيا وكوت ديفوار ونيجيريا، وهي البلدان التي أعربت عن رغبتها في الاستفادة من التجربة المغربية، تحرك يستند إلى هذه القراءة، التي ثبت أنها من صميم الرسالة الدينية للبلاد ومن صميم الممارسة الدينية لشعب بكامله مع شعوب أخرى ..

ففي مقابل توظيف سياسي للدين يقترح المشروع المغربي التوظيف الحضاري للدين، بما يرقيه من تحويل الهوية إلى برنامج سياسي للأطراف المتناحرة.. إلى مشروع لإسلام متنور، بأجوبة قادرة على فتح الآفاق للشعوب المؤمنة كلها.

فالتقليد، أو أدلجة الدين، أو تحويله إلى أديولوجية للصراع الداخلي أو مع الآخر، عادة ما يكون إيديولوجيا النخبة في الفترات التي تعرف الآفاق المنغلقة.. كما يحدث اليوم، ويقتضي فتح الأفق استعادة التنوير لمكانته في التاريخ..

لعل اتساع الحقل الديني ليشمل إفريقيا، كما شمل أوروبا، وتكريس إسلام الأنوار، عبر تكريس نموذج قادر على الاجتهاد، حيث تقف أغلب الشعوب الإسلامية من الشرق الأدني إلى شمال إفريقيا، وكل ما يحمله ذلك من رسائل في الداخل كما في الخارج يجعل التجربة الحالية تاريخية بكل المعنى..