كنت أعتقد أن درس الأستاذ أحمد التوفيق حول أبي العباس السبتي، سيكون فاتحة لمراجعة جذرية لمنجز الحقل الديني، فإذا بنا أمام مسلسل الهروب إلى الأمام. يتعلق الأمر بدرس الأستاذ مصطفى بنحمزة حول "سلفية الأمة والتمثلات المغربية" 26/6/2015، وبظهير إعادة تنظيم جامعة القرويين، الذي ستأخذ بموجبه وزارة الأوقاف الاسم/الإطار، لتأثيث إحداثياتها وشرعنتها، في حين ستحتفظ وزارة التعليم العالي بالكليات التابعة لها، خدمة للتمدد الأصولي المريح، هنا وهناك. في حين كان من المنتظر، إشراف وزارة الأوقاف على القرويين اسما ومسمى، وحتى على شعب الدراسات الإسلامية بكليات الآداب، على الأقل من منظور مرعيات هذا البلد الأمين، على نحو ما قرره نقيب الشرفاء العلويين، المؤرخ ابن زيدان، بقوله: "وللتعليم الديني مجلس إدارة في البلاط".
في هذه الحلقة سأتوقف عند الدرس الرمضاني للأستاذ بنحمزة. وقد سبق للباحث سفيان الحتاش أن توقف عنده، تحت هذا العنوان: "في إنكار بنحمزة للتصوف في الدرس الحسني الرمضاني.. استهداف للإسلام المغربي ومرجعية إمارة المؤمنين". وقد كان لهذا التوقف الصدى الواسع، في الأوساط المهتمة. لكن سأتوقف اليوم على ما له علاقة بعنوان هذه الحلقة.
لهذا الدرس علاقة بتفاعلات ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية، وبتجيير منجز وزارة الأوقاف في خاتمته، لتبرير منحه غطاء "جامعة القرويين"، ومن ثم الارتقاء بحصيلة الأستاذ التوفيق إلى مصاف مشروعية أعمدة البيت العتيد، التي لا تقبل الاقتراب حتى من صباغتها، إضافة إلى الانتصار للتدبير الأصولي "الفاشي" للحقل الديني، من خلال التمثل الجاهلي لـ "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".
هذه الرسائل، في حضرة المقام، وخصوصا تمرير منجز ندوة السلفية بشأن التصوف المغربي، تطرح إشكالا كبيرا، على درب ولاية الفقيه على مرجعية إمارة المؤمنين. ولنا أن نتتبع إحدى هاته الرسائل، للوقوف على اشتغال العقل الأصولي. ففي حديثه عن "النموذج المغربي في التدين"، والذي أقصى فيه المكون الصوفي، رتب عليه مقدمة، لأجل خاتمة تستوجب في نظرنا بعض التوقف. لنصغي إلى هذه المقدمة: "وقد يكون من أقوى البواعث والدواعي إلى إقامة هذا المبحث، في هذه اللحظات بالذات، أن هذا النموذج أصبح يستلفت الأنظار إليه، فتوجهت إليه شعوب إسلامية عديدة، أوفدت أئمتها ومؤطريها الدينيين للاطلاع على هذا النموذج عن كثب ولاستيعابه ونقل تجربته إلى بلادهم". ونسي الأستاذ بنحمزة، أن تلك البلدان قبلت النموذج المغربي بتصوفه، وليس بوهابيته. ونسي أنها قبلت هذا النموذج بمرجعية إمارة المؤمنين، وليس بولاية الفقيه الأصولي. وهذا جانب التدليس في الموضوع.
أما خلاصة هذه المقدمة، فتتمثل في هذا التعريض: "وإذا كان الأمر هكذا، فإن من المؤسف أن يوجد من جعل تفكيك هذا النموذج وهدمه، أكبر اهتماماته ومنتهى غايته". وهذا جانب التعريض بالمخالفين. طبعا هو لا يقصد نفسه، وقد فكك النموذج المغربي للتدين، وهدم تصوفه، في حضرة أمير المؤمنين. ولا يقصد مخطط من يسمون بالمعتدلين جدا من الأصوليين، الذين يهدمون باسم التدين المغربي، أصالة التدين المغربي. إنه لا يقصد الجهة التي تسعى باسم التدين المغربي -وقد فشلت في مواجهة الخوارج- إلى التطبيع مع كل مظاهر الخروج عن التدين المغربي. إنه لا يقصد هذا المخطط الانقلابي الذي تتولاه المؤسسة العلمية باسم السلفية، ضد الذاكرة الجماعية للأمة في المغرب. إنه يقصد بهذا الكلام، بعد التطبيع الرسمي مع السلفية الوهابية والإخوانية، أولائك المخالفين الذين لم يقبلوا السير في ركاب مخطط الانقلاب على وظيفة مرجعية إمارة المؤمنين. كل هذا يتم تمريره باطمئنان -وإن بدت عليه أمارة الارتباك- في حضرة المقام. وهو في هذا منسجم مع نفسه، فهل الدولة منسجمة مع نفسها؟
لعل استحضاري للقطب أبى العباس السبتي في مناقشة درس الأستاذ التوفيق، ضمن الرؤية النسقية للمشروع التومرتي لبناء الدولة المغربية، من خلال مرجعية إمارة المؤمنين، وهي تعلن ميلاد العقيدة الأشعرية، من رحم التصوف السني، يجعلني أرى في درس الأستاذ بنحمزة، وهو يُحكّم سلفيته في التصوف المغربي، جرأة كبرى -في حضرة المقام- على تلازم منظومة الثوابت المذهبية للبلاد، وبالتالي نسخا لدرس الأستاذ التوفيق. ففي كل مرة نعتقد فيها أن الأمور بدأت تستقيم، إلا وظهرت علامات التخبط الرسمي من جديد. حتى "الأحداث المغربية"، التي بيضت، بدون موجب في اعتقادي، صحيفة الأستاذ بنحمزة، في ركن "من صميم الأحداث"، بمناسبة النقاش الوطني حول الإجهاض، ستجد صعوبة في تقبل استمرار هذا الهدم الممنهج لإسلامنا المغربي، ولمضمون مرجعية إمارة المؤمنين. لذلك فهو مطالب بمراجعة جذرية، على مذهب نظافة التعامل مع الثوابت الدينية والوطنية، ومع مقام صاحب الأمر، ومع القوى الديمقراطية، وهذا من منطلق الحرص عليه. فالإصغاء لمتطلبات "المؤمن مرآة أخيه"، قد يكون مفيدا حتى لرتبة الشفوف والظهور، التي تستهوي الأستاذ بنحمزة.
أعرف أنه يفعل إن أراد، وأتمنى أن يريد فعل هذه المراجعة. لكن إلى الآن، ما أعتقد أنه بهذا النهج الإمبراطوري المعولم، يمكن حماية حدودنا الشرقية، على الأقل، وصاحبنا يقاطع -على نحو ما قرأنا في الصحافة الإلكترونية والورقية- وقائع تسليم الهبات الملكية بضريح سيدي يحيى بوجدة، ورفع العلم الوطني بالمناسبات الوطنية، كما يحارب زاويا، موطنها في تلك الديار، فأحرى حماية بيضة الأمة بمحددات الثوابت المغربية.
حديث الأستاذ بحمزة عن سعاة التفكيك والهدم للنموذج المغربي في التدين، في حضرة المقام، هو امتداد لحديث الأستاذ يسف عن "السفهاء"، في دورة المجلس العلمي الأعلى بمكناس. هل فتحت الدولة تحريات فيمن يقصدهم الأستاذ يسف بالسفهاء، والأستاذ بنحمزة بسعاة التفكيك والهدم؟ مطلب الوضوح مطروح، وسيبقى قائما، لصحة العلاقات العامة بين المكونات الوطنية، حتى لا تتسلل من إرادة التلبيس والتدليس والتخليط، جموح العقليات المافيوزية، باسم مؤسسات الدولة، وحتى لا يتم التمكين لمخططات السعودية الدعوة، والتنظيم العالمي للإخوان، في المغرب. إضافة إلى التمكين لطعن الأستاذ الريسوني في أهلية أمير المؤمنين. فالأمور مترابطة، إن لم نقل متشابكة حد التعقيد. لكن من حقنا أن ننعم كمغاربة، في باب الأمن الروحي، بيقظة حواس الدولة.
لكن كل هذا يجرنا إلى الإشارة إلى أصل هذه الأعطاب المتناسلة، كما يجسده المخزن الديني. شخصيا ليس لدي كثير أوهام بخصوص أصوليته الوهابية والإخوانية. فما نلاحظه، أنه باسم التدين المغربي، يتم بواسطة هذه الأصولية، هدم التدين المغربي. وهذا ما يفسر استغاثتي المتكررة بصاحب الأمر، ليتدارك هذه الأمة -وروح القدس معه- قبل فوات الأوان. لكن ما ورثناه نحن في الريف من مولاي موحند (المجاهد ابن عبد الكريم الخطابي)، وما تعلمناه من غاندي المغرب، الفقيد العزيز سي عبد الرحيم بوعبيد، أنه ليس بالضرورة، أن يكون المرء وطنيا، ليكون من الفرقة الناجية. فالأستاذ يسف يعتبره سفيها، والأستاذ بنحمزة يعتبره من سعاة التفكيك والهدم. المفرد هنا بصيغة الجمع، حتى لا تذهب بنا الظنون بعيدا. لذلك، فالنضال الوطني، كان وسيبقى بدون تأمين سياسي. لنا فقط بعض العزاء في نشدان الدولة الوطنية الديمقراطية، وفي أمل عدم إجهاض المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، لصاحب الأمر. لكن بصيرورة هذا النضال، يمكن هزم خصوم الإصلاح، تماهوا ما تماهوا، بمخططات الوصاية، مع رموزنا ورمزياتنا الوطنية، ويالتالي تضمن هذه الصيرورة الحماية الحقيقية، لقيمنا، وذاكرتنا الجماعية كأمة مستقلة، تنحت بمعاناتها واحتياجاتها الحقيقية، فرادة نموذجها الديني والمؤسساتي.
درس الأستاذ بنحمزة، وهو يقصي التصوف المغربي، ويُعرّض بمخالفي الوهابية والإخوان، لا ينفصل عن دينامية التطرف التي فجرتها ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية، بتعميد الشيخ زحل لها. وفي ترسيم هذا الزحف، هناك من يتكفل بالملك، وهناك من يتكفل بالشارع، وهناك من يتكفل بالمؤسسات الدينية وإعلامها، وهناك من يتكفل بالمقابر، (اسألوا عن الاختطاف الوهابي للجنائز). وهناك من يتكفل بالقوى الديمقراطية. وفي هذا الزحف الأصولي الشمولي، قضم يومي - جزئي أو كلي، حسب المتاح، للأدبيات المذهبية، ولتلازم مكونات الإسلام المغربي ومرجعيته الدينية، ولقيم حقوق الإنسان، ولأطر العيش المشترك، لتكريس هيمنة الاستغلال والاستبداد والتخلف. وبالرغم من هذا الإفلاس البين، هناك زهو رسمي بهذه القبضة العسكرية الأصولية بمخنق الدولة والمجتمع، والتي لم يبق لنا معها إلا أن نقول: آجركم الله، في أمة المغرب، ومغرب الأمة !
فهل تحمل مرارة هذا الإحساس، المخزن الديني، على أن يفسح المجال، لبناء مرجعية إمارة المؤمنين،على تقوى من الله ورضوان؟ لكن متى كان الإصلاح في المغرب في ظل نزوع الاستبداد، يستجيب وبالسلاسة المطلوبة حتى لدفتر مطالب القوى الحية، فأحرى لأحاسيس المواطنين؟ مجرد سؤال من باب الواقعية الثورية، ليس إلا. أما نحن، فقد بايعنا على عدم الاستسلام للواقعية الانهزامية. ولعل هذا من ميثاق العهد الجديد، وهو ما يزكي النضال فينا، ولن نسأم من دعاء الخير!