صادق مجلس الحكومة خلال اجتماعه الأسبوعي يوم الخميس 2 يوليوز بالرباط، على مشروع قانون رقم 13-73 المتعلق بمكافحة الاضطرابات العقلية وبحماية حقوق الأشخاص المصابين بها، وهو المشروع الذي تقدم به وزير الصحة، والذي يهدف إلى إجراء مراجعة شاملة للظهير الشريف رقم 295-58-1 الصادر في 30 أبريل 1959 بشأن الوقاية من الأمراض العقلية، ومعالجتها، وحماية المصابين بها، على اعتبار أنها لم تعد تتلاءم مع التطور المسجل في مجال حماية الحقوق والحريات الأساسية لفئة الأشخاص المصابين بالاضطرابات العقلية، سواء في الاتفاقيات الدولية أو في تشريعات الدول المتقدمة.
وإذا كان من المهم جدّا أن تتم إعادة النظر في وضع الصحة النفسية والعقلية على مستوى التشريع، والعمل على إصلاح الأعطاب القانونية والبشرية وتلك التي تهمّ البنيات الاستشفائية، وما إلى ذلك من اختلالات سبق وأن رصدها وبتفصيل مدقق المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره، فإن المشروع الذي تمت المصادقة عليه وإذا ما لم يتم تعديله على مستوى البرلمان وتدارك الشوائب التي تعتريه، فإن أطباء الصحة النفسية والعقلية في المغرب، بعددهم الضئيل الذي لا يتجاوز 320 طبيبا.. وهو رقم مع ذلك عرف بعض الارتفاع خلال السنوات الثلاث الأخيرة في وقت لم يكن يتجاوز 273 طبيبا، سيكونون أمام أحد الخيارين، إما التنازل عن رصيدهم العلمي والمعرفي وما راكموه من خبرات، بالنسبة للمتمرسين منهم، والتضحية بـ 11 سنة من التحصيل والتكوين من أجل الحصول على التخصص، وطي وزراتهم وخلع سماعاتهم الطبية من أجل البحث عن مهنة أخرى أو على الأقل ممارسة الطب في شقّ لاعلاقة له بالصحة النفسية والعقلية، وإما أن يجهزوا أنفسهم وأسرهم معنويا كي لا يصابوا بالصدمة إن هم اعتقلوا في يوم من الأيام ووجدوا أنفسهم خلف القضبان، ما دام مشروع القانون الجديد، تحكّمت فيه الرؤية الجنائية، وطغت عليه نفحة العقاب الزجري، حتى في حالات الإغفال نتيجة لسهو ما، على اعتبار أن جميع الأخطاء/الهفوات أضحت جرائم.. وبالتالي تم الإجهاز على الأخطاء المهنية والتعامل معها على أساس أنها أفعال إجرامية يعاقب عليها بغرامات مادية وعقوبات سالبة للحرية. والحال أن الخطأ إنساني عكس الكمال الذي هو صفة ربانية، وهو ما تترجمه المواد من المادة 83 إلى المادة 107، والتي لا تتضمن إلا التهديد والوعيد للأطباء دون تحديد مدقق لطبيعة بعض المفاهيم المفتوحة التي يمكن تأويلها بمنتهى اليسر كي تتلاءم ومقتضيات القانون المذكور، لتصبح سيفا مسلطا على رقاب المهنيين؟
مشروع قانون لا يعرف أحد من قام بصياغته، ولم يتم إشراك المهنيين في إعداده، وهو ما يتبين من خلال عدد من المصطلحات العلمية التي تم توظيفها والتي هي تعاريف عتيقة لم يعد معمولا بها لكونها تعود إلى بدايات القرن، في حين أن أخرى أُسقطت من خلال ترجمة سطحية، فضلا عن توظيف مصطلحات أخرى ذات نفحة جنائية ، حين الحديث، على سبيل المثال لا الحصر، عن هروب النزيل من المؤسسة الاستشفائية وتشبيهه بالسجين الفار من السجن.. وهما معا أمران لا يستقيمان، كما أن هذا المشروع وإن يحسب له حرصه على البعد الحقوقي للمرضى على مستوى النص، فإن واضعيه يتبينأنهم على غير وعي بالمعطيات الميدانية لواقع الصحة النفسية والعقلية... ومن بين الأمثلة على ذلك، "استعارة" النموذج الفرنسي والأمريكي بشأن الحماية القانونية والترخيص بعلاج المريض من خلال استقدام شهادة طبية من خارج المؤسسة التي يراد الاستشفاء بها قبل ولوج هذه الأخيرة، وكأن أطباء الصحة النفسية والعقلية متوفرون في كل مكان، علما بأن بعض المدن لا يوجد فيها أكثر من طبيب واحد وأخرى لا يوجد بها أي طبيب مختص، في إغفال تام لطابع الاستعجالية التي قد تتحكم في الحالة المرضية؛ مع استحضار أن المشروع الجديد يلحّ على ضرورة الحصول على موافقة اللجنة الجهوية، وهي لجان ومعها اللجنة الوطنية تعد بمثابة هيئات للمراجعة لا يمكن إلا الإشادة بإحداثها وبطبيعة تركيبتها؛ لنقل مريض من حالة العلاج الإرادي إلى "المقيّد"، وضرورة توقيعه على قرار بالموافقة على ذلك في حال تدهورت وضعيته الصحية.. وهنا يطرح السؤال حول الضمانات التي ستحفز المريض الذي قدم بشكل شخصي أو مرفوقا بأسرته وهو في وضعية ليست بالمتطورة على أن يوقّع بمحض إرادته وثيقة تمنح الطبيب صلاحية إغلاق الأبواب عليه؟ وبالمقابل يطرح مشكل آخر في الوضعية الحرجة التي تتطلب استشفاء سريعا، كيف سيتعامل معها الأطباء وهم ملزمون بانتظار 72 ساعة كأجل للحصول على قرار اللجنة الجهوية التي تجتمع مرة واحدة على الأقل كل 3 أشهر كما تشير إلى ذلك المادة 21، ويتطلب عقد اجتماعها في حالة الاستعجال، خاصة عند نهاية الأسبوع، تدابير هي ليست متاحة بالنظر إلى واقع الحال، مع استحضار وضعية مريض الفصام والدهان والتساؤل إن كانت لهم إرادة حرّة للإقرار بأمر ما بالنظر إلى وضعيتهم الصحية؟ وبالتالي فهي تدابير لن تكون في المتناول مما سيترك المريض معلّقا، كما أن الطبيب المعالج في المؤسسة الصحية لن يكون سيّد نفسه/قراره.. والحال أنه كان يجب الحفاظ له على سلطته الطبية مع الحرص بطبيعة الحال على تتبع عمله ومراقبته، لكن دون وضع عراقيل سترفع من درجات التخوف عند الأطباء، وتخلق مزيدا من التيه والمشاكل للمرضى وأسرهم الذين سيجدون أنفسهم يتخبطون في دوامات لا حصر لها!
إن تحليل مشروع القانون الجديد يقف معه المتتبع على العديد من المواد التي تطرح علامات استفهام عدة حول البعد الذي تحكّم في تضمينها، ومن بينها المادة 50 خاصة فيما يتعلق بـ "التخلص" من المرضى الذين يوجدون في حالة احتضار بتسليمهم لأسرهم؟ وكذا المادة 71 التي تؤكد على ضرورة الحصول على ترخيص كتابي من المريض لحقنه بحقنة تأخذ مرّة في الشهر بالنسبة لمرضى الذهان الذين يرفضون الأدوية، وهو ما يعد أمرا مستعصي الحدوث بالنسبة لمريض لا يمكنه التعبير عن إرادة حرّة، فضلا عن معنى إدراج الحقنة ضمن الأدوية في مفهومها العام وتصنيفها في خانة.. والحال أنّها تمكّن من تهدئة المريض؟ إلى جانب جملة من المواد/المساطر التي لا تساير المجتمع المغربي وإمكانياته بما فيها تلك التي تخص المؤسسات الاستشفائية في ظل الخصاص في الموارد البشرية.. والحال أنه يجب التأكيد على مساطر مبسّطة تحمي المريض وتسهّل عمل الطبيب لكن مع تحميله مسؤولية خطواته، وبالتالي وجب إعادة النظر في المشروع المذكور مع المختصين حتى يتم تحقيق إجماع على قانون تتم صياغته بمقاربة تشاركية، وأن يترجم القانون توصيات تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، من خلال استحضار التكوين، الموارد البشرية، البنيات الاستشفائية، العلاجات والأهمّ من ذلك إحداث سياسة صحية في مجال الصحة النفسية والعقلية.. وهي الرسالة التي قد تكون وصلت إلى وزير الصحة الذي أشار بكيفية ما في اجتماع عقده يوم الخميس 9 يوليوز الجاري مع عدد من المسؤولين، خُصص حيزه الأكبر للحديث عن نزلاء "بويا عمر" وتبعات ترحيلهم، إلى أن مشروع القانون المصادق عليه لن يعرف طريقه إلى البرلمان بشكل مستعجل!