السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

أبو أيمن الفارح: الجيش في الإنعاش الوطني.. أسباب الوجود انتفت

أبو أيمن الفارح: الجيش في الإنعاش الوطني.. أسباب الوجود انتفت

لم تكن مظاهر الصحة والتعافي مما لحق أطراف الصراع، خلال المسار المتشعب والمتشابك في سبيل استقلال البلاد، قادرة على إخفاء الحالة الصحية السياسية الحقيقية المحتقنة، نتيجة الاختلاف الكبير في وجهات النظر بخصوص مستقبل البلاد وطبيعة نظامه السياسي. كان الإجماع حول نظام حكم ملكي، لكن توزيع السلطة ودور الملكية عرف تباينا واختلافا في الرأي، وصل في مراحل لاحقة إلى حد القطيعة بين بعض رموز الحركة الوطنية  والقصر الملكي.

لقد خلق اندفاع بعض هؤلاء الرموز قلقا كبيرا لدى القصر الملكي، خصوصا لدى ولي العهد، آنذاك، الحسن بن محمد بن يوسف، بحكم انخراطه الكبير في تسيير دفة الحكم إلى جانب والده الملك محمد الخامس، ونظرا، كذلك، للعلاقات المتميزة التي ربطته بأقطاب الحركة الوطنية وعلى رأسهم الزعيم المهدي بنبركة.

إضافة إلى جملة من الأحداث المسببة للقلق والتوتر السياسي والاجتماعي، يمكن أن ندرج زيارة الزعيم الثوري الذائع الصيت تشي غيفارا للبلاد، دعما وتلبية لرئيس الحكومة التقدمي عبد الله إبراهيم، وعلى أمل إيجاد موطئ قدم من أجل الزحف بمشروعه الثوري نحو العمق الإفريقي.

كان قادة جيش التحرير والقادة النقابيون والسياسيون الآخرون، وفي مقدمتهم المهدي بنبركة في أوج الشباب والشعبية، وبدأ صيت هذا الأخير يمتد إلى خارج حدود الوطن.

- طريق الوحدة:

كانت الدولة المغربية الفتية، الحديثة العهد بالاستقلال، تعي جيدا الوضع المتدهور اقتصاديا واجتماعيا للمناطق الشمالية للمملكة، وكذلك المشاكل السياسية المترتبة عن حرب الريف، إبان الاستعمار الإسباني للمنطقة، والتي انتهت باستسلام المجاهد عبد الكريم الخطابي، حقنا للدماء بعد حرب الإبادة التي شنها التحالف الاستعماري الفرنسي الإسباني.

وكان لزاما على الدولة المغربية أن تولي تلك المناطق الاهتمام اللازم من أجل إدماجها وفك العزلة عنها اقتصاديا وسياسيا والتصدي للمشروع  الرامي إلى الحفاظ عليها مجالا حيويا إسبانيا.

لم يكن الطريق سالكا جغرافيا وسياسيا إلى مناطق الريف بالتحديد، والتاريخ لا ينسى الاستقبال غير اللائق للزعيم المهدي بنبركة ورفاقه في بلاد مساعدي وأتباعه، فشق الطرق على كل المستويات، من أجل الوحدة، بعد الاستقلال، ضرورة ملحة ومستعجلة. هكذا خرج مشروع طريق الوحدة إلى الوجود في شهر يوليوز 1957، بمباركة الملك محمد الخامس والمشاركة الفعلية لولي العهد الأمير مولاي الحسن، ليربط مناطق جبلية صعبة بباقي أقاليم المملكة وببعضها البعض، عبر طريق بحوالي 80 كيلومتر من تاونات إلى كتامة، شارك في إنجازها أزيد من 12 ألف متطوع قدموا بحماس شعبي من كل مناطق البلاد. لقد اتخذت كل الإجراءات الأمنية واللوجستيكية لضمان نجاح الورش.

في الوقت نفسه كان التآمر والغليان والتشويش على أشده، مما أدى إلى انطلاق أحداث الريف المؤسفة ودخول الصراع مرحلة متقدمة من العنف، استبيحت فيها كل الوسائل والأدوات. لقد كان سكان الريف يثورون ضد التهميش الذي يطالهم على كل المستويات، وعلى عدم إشراكهم في المفاوضات من أجل الاستقلال وتقرير مصير البلاد.. وفي الجانب الآخر كان النظام يحارب من أجل استتباب الأمن وترسيخ سلطة الدولة وتصفية الحساب مع  المتآمرين ضد  ولي العهد.

لقد خلفت أحداث الريف آثارا كبيرة  لدى مختلف الأطراف، وبعد توليه مقاليد الحكم وعرش البلاد سنة 1961، خلفا لوالده الملك محمد الخامس رحمه الله، كان الشغل الشاغل للملك الحسن الثاني هو البحث عن أنجع السبل لاجتثات أسباب التوتر من المناطق المهمشة بالبلاد وفي طليعتها المناطق الشمالية للمملكة والمناطق الجنوبية.

- الإنعاش الوطني

لقد أبانت التجربة المتميزة لطريق الوحدة عن نجاعتها، وبالتالي إمكانية تطويرها وجعلها أداة رئيسية ورافعة لتنمية  البادية المغربية ورفع مستوى عيش سكانها، الذين يشكلون أكثر من ثلثي سكان البلاد ويعيشون على فلاحة تعتمد بالأساس على أمطار موسمية غير منتظمة، فكانت فترات الجفاف تزيد الوضع تأزما وتهيئ  الظروف المواتية لزرع القلاقل  والتشكيك في المستقبل .

في السنة نفسها لتولي الملك الحسن الثاني الحكم، صدر ظهير الإنعاش الوطني محددا جملة من الأهداف، تتمثل بالأساس في التخفيف من البطالة في العالم القروي بتشغيل اليد العاملة وفتح أوراش للتنمية المحلية من أجل وقف الهجرة التي بدأت ترتفع بشكل مقلق نحو المدن.

كانت المبادرة ترمي، إضافة إلى ما ذكرناه، إلى امتصاص الغليان الشعبي في تلك المناطق، وتبني الدولة لكل أشكال التجنيد الشعبي في مشاريع تنمية القرب ومنع استغلالها السياسي وأغراض أخرى. لم تكن الإمكانيات المالية والتقنية للدولة قادرة على تحمل تكاليف الخصاص المهول على مستوى البنيات التحتية والمسالك القروية والغابوية وتأهيل المراكز الحضرية والقروية وسد حاجياتها في ميادين التسيير الإداري والصحة والتعليم على وجه الخصوص.

لهدا الغرض أنشئ صندوق خاص بميزانية حوالي 400 مليون درهم لتمويل الأجور ومشتريات أدوات ولوازم العمل، وكانت الأجور التي تعادل 4 دراهم في اليوم للفرد الواحد يؤدى نصفها نقدا والنصف الآخر عينا متمثلا في بعض مواد التموين الغذائي من دقيق وزيت وأرز وغيره، هدية من الشعب الأمريكي. ولضمان السير العادي والتنفيذ المحايد للبرامج و المشاريع، تم تعيين 25 ضابطا من القوات المسلحة الملكية على رأس المندوبيات الجهوية للإنعاش الوطني، مساعدين لعمال العمالات والأقاليم، والتي كانت بعدد 16 إقليما إضافة إلى عمالتي الرباط والدار البيضاء، كانت أغلبها تحت إشراف ضباط من القوات المسلحة الملكية  مثل القبطان أحرضان في الرباط، بن عمر إدريس العلمي بالدار البيضاء، اعبابو، المدبوح، وآخرون .

لقد استفردت المنطقتان :

 -الشمالية: الناضور، الحسيمة، تطوان، تازة ونواحيها...

 -الجنوبية: مراكش، وارززات، بني ملال، أكادير، قصر السوق..

استفردت هاتان المنطقتان بحوالي ثلثي أيام العمل والميزانية. وهمت المشاريع مجالات حيوية مرتبطة بالمعيش اليومي للسكان، حيث تمت عمليات بناء مدارس ومقرات جماعات محلية ومستوصفات ونوادي نسوية، كما تمت عمليات تشجير غابات وإصلاح ومد قنوات الري والخطارات وبناء سدود صغيرة.

على سبيل المثال، بين 1961 و1963 تم إنجاز :

- حوالي 2500 كلم من قنوات الري في الراشيدية لأجل سقي 40.000 هكتار

- ما يناهز 80 مشروعا لتجميع المياه ، منها 20 سدا صغيرا

-170 عين ماء تم إصلاحها وتهييئها

- حوالي 20.000 كلم من المسالك القروية والغابوية

-1200  حجرة دراسية و700 مسكن للأسرة التعليمية مكنت حوالي 225.000 ألف طفل من الالتحاق بالمدرسة صيف 1961

-125  دار للجماعة تحتوي على قاعة للنشاط النسوي

-5  آلاف وحدة سكنية في إطار برنامج محاربة الصفيح

هده الأرقام أدرجها لأفسح المجال للمقارنة بين الأمس واليوم على مستوى الانخراط الحقيقي وبحس وطني عالي، بالأمس، من أجل النهوض بالبلاد ومستوى عيش ساكنة المناطق الفقيرة وبأقل ما يمكن من موارد وتقنيات اللهم ما كان من العنصر البشري الذي كان رأسمالا حقيقيا راكم ثروة وطنية حقيقية من النماء. ولقد بينت الدراسات الاقتصادية والمالية بأن المشاريع المنجزة كانت تتم بثمن أقل من النصف بالمقارنة مع أثمنة المقاولات الخاصة، كما حدت من الهجرة نحو المدن، وحققت أمنا وسلما اجتماعيا، وحسنت بشكل ملموس ظروف العيش في العديد من البوادي المغربية، وبين الدور الغامض، اليوم، لمؤسسة الإنعاش الوطني، التي لم نعد نسمع غير فضائح بطاقات الإنعاش والعمال الأشباح والظلم الاجتماعي الكبير والاستغلال البشع الذي يلحق عمالها الذين أصبحوا عبيد مغرب القرن الواحد والعشرين.

لقد كان دور الجيش ضروريا في الفترة الأولى من نشأة الإنعاش الوطني، لأسباب سياسية، كما ذكرت، ولأسباب مادية وتقنية تتعلق بالنقص الحاد للمؤطرين في البلاد.. أما وقد انتفت كل هذه الأسباب، أما حان الوقت لرجوع هؤلاء الضباط، على قلتهم، لثكناتهم وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي المدني.. فلم تعد تنقصنا الكفاءات.. ولم يعد هناك من توجس سياسي...