الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: الاقتراح الروسي ومعطيات الواقع السوري

عبد القادر زاوي: الاقتراح الروسي ومعطيات الواقع السوري

فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم نهاية شهر يونيو 2015 باقتراح إقامة تحالف بين النظام السوري من جهة وكل من المملكة العربية السعودية والأردن وتركيا من جهة أخرى لمواجهة ما أسماه الشر المطلق للإرهاب، داعيا الدول المذكورة إلى تجاوز الخلافات العميقة فيما بينها. وقد كان أول المفاجئين بهذا الاقتراح وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي عقب بأن تحالفا كهذا يحتاج إلى معجزة كبيرة جدا كي يتحقق، متسائلا كيف يمكن أن تتحول الدول التي قال إنها تشجع الإرهاب وتتآمر على سوريا من أن تصبح حليفة لها بين عشية وضحاها.

ورغم أن الجانب الروسي لم يفصح عن الأسباب التي حدت به إلى تقديم هذا الاقتراح، ولم يشرح الطريقة التي يمكن أن يتبلور من خلالها مكتفيا بالإشارة على لسان وزير خارجيته سيرغي لافروف إلى وجود مؤشرات على تغير تدريجي في مواقف بعض الدول من الأزمة السورية يحتمل أن توصل إلى رؤية مشتركة لمحاربة الإرهاب الذي يهدد الجميع، فإن المراقبين يربطون بينه وبين لقاءات عالية المستوى جرت في الآونة الأخيرة بين موسكو من جهة وكل من تركيا والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى تم تتويجها بتوقيع العديد من الاتفاقات المشتركة تجاريا وعسكريا أيضا.

والملاحظ أن هذا الاقتراح، الذي بدأت موسكو تسويقه على مهل بالتأكيد على أنه لن يهمل مقتضيات مؤتمر جنيف 1 بشأن قيام حكومة انتقالية في دمشق، يأتي رغم غلافه السلمي في سياق سياسة التصعيد التي كانت روسيا قد تبنتها منذ مدة ردا على تشديد العقوبات الغربية الأمريكية والأوروبية ضدها. فهذا التصعيد  من السهل أن يستشفه المراقب على أكثر من جبهة تتواجه فيها روسيا مع هذه القوى أو تتشابك عندها مصالح الطرفين، رغم الحرص الذي يبديانه على مواصلة نعت بعضهما البعض بالشركاء، وخشيتهما من تدهور الأمور إلى حرب باردة جديدة هما عمليا  الآن في مرحلتها التمهيدية.

يظهر التصعيد الروسي بشكل مكشوف على الجبهة الأوكرانية من خلال قيام موسكو بغض الطرف إن لم يكن بالإيعاز للانفصاليين الأوكران للاستيلاء على مدينة ديبالتسيفا، واسئناف المعارك الحربية على كل الجبهات ؛ الأمر الذي اعتبرته حكومة كييف والدول الغربية المساندة لها تقويضا لاتفاق مينسك، ومنعطفا جديدا تدخله الأزمة الأوكرانية.

ولا يخالج الشك أي مراقب في أن هذا المنعطف يوحي بأن موسكو عازمة كيفما كانت الظروف على إبقاء أوكرانيا أو أجزاء واسعة منها تحت نفوذها المباشر رغم ما يزرعه هذا التصرف من رعب في جمهوريات أوروبا الشرقية الأخرى، وجمهريات البلطيق التي رغم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، قررت إعادة الخدمة العسكرية الإلزامية لشبابها تحسبا لأي خطر روسي محتمل بدأت تستشعر إرهاصاته في ضوء ما يجري في أوكرانيا.

وإذا كان جليا أن هذا التصعيد مقلق لدول الاتحاد الأوروبي ومزعج للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الروس يدركون أنه غير موجع لهما، لأنه محصور في المكان ولا يمس كثيرا المصالح الحيوية للأوروبيين والأمريكيين. وهذا ما دفع الحكومة الروسية إلى البحث عن التصعيد أيضا على الجبهات الشرق أوسطية حيث الرهانات كبيرة والمصالح جمة، ما يجعل أي تحرك روسي خارج دائرة التناغم مع الغرب مدعاة لاستنفار كافة القوى الدولية والإقليمية كذلك.

وفي المعلومات أن روسيا الاتحادية ليست في وارد مسايرة الغرب في القضايا الإقليمية الشائكة في الشرق الأوسط، وأنها مصممة على مباشرة تلك القضايا وفق مفاهيمها ومصالحها، إذ تطرح التسويات حيث يتطلب الأمر ذلك، وتتحرك بكل استقلالية للبناء عند الضرورة وللعرقلة إذا ما كان هنالك مس بمصالحها، ساعية من وراء ذلك إلى إفهام الغرب بأنه لن يتمكن على الإطلاق من تطويقها، وحصر مجال تحركها، ناهيك عن ضرب معاقل نفوذها التقليدية.

فالمعروف أن روسيا ترفض ربما أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون إيران دولة نووية لوجود هذه الأخيرة بخطابها الإسلامي الرسمي والمندفع وفق إيديولوجية دينية "ثورية" على تماس مباشر مع الخاصرة الجنوبية الرخوة لروسيا الاتحادية، التي لم تتعاف بعد من أوجاع الشيشان ؛ ولكنها مع ذلك كانت قد هددت على لسان نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف باتخاذ إجراءات انتقامية ضد الغرب في مفاوضات مجموعة (5+1) مع إيران إذا ما تمادى الغرب في الضغط على موسكو في الملف الأوكراني.

وقد اقترن هذا التهديد سريعا ببدء خطوات تنفيذية، إذ تشير معلومات متطابقة من أكثر من مصدر أوروبي أن موسكو تسعى إلى إحياء صفقة تزويد طهران بصواريخ S300 التي كانت قد توقفت المفاوضات حولها سنة 2010 بضغوط غربية وإسرائيلية، وأنها ألمحت إلى إمكانية إدخال تمويل إيراني في برامج تطوير الصواريخ الطويلة المدىSS27 ؛ مما قد يضاعف القلق الغربي والأمريكي والإسرائيلي بصفة خاصة.

وتشكل محاولة الانفراد بفتح كوة صغيرة في جدار المأساة السورية أكبر مجال تريد روسيا أن تثبت فيه قوة نفوذها في المنطقة، واستقلالية تحركها وقدرتها على المشاركة في القيادة العالمية؛ وذلك من خلال استضافتها اجتماعات تشاورية بين النظام السوري وفصائل من المعارضين السلميين في الداخل والخارج.

وقد أقدمت موسكو على هذه الخطوة مرتين متتاليتين رغم إدراكها استحالة تحقيق أي اختراق يذكر. فالأهم بالنسبة لها من وراء هذا التحرك توصيل رسالة مفادها أنها قوة عظمى لها وزنها في لعبة الأمم الدائرة رحاها في حلبة الشرق الأوسط، والمستعرة في سوريا، وأنها قوة قادرة على البناء وفق رؤاها وبما ينسجم مع مصالحها، وليس فقط قادرة على التشويش كما يتهمها الغرب.

إن هذا الإيحاء بالبناء جسدته موسكو، قبل هذا الاقتراح المثير للجدل، على أكثر من واجهة مهتمة بالأزمة السورية أو منخرطة في أتون حربها الأهلية :

- في الساحة السورية حيث نسقت مع النظام وضمنت حضوره لاجتماعات موسكو وإن على مستوى سفير، وخاطبت معارضة الداخل والخارج وأمنت مشاركة بعضها، وحرصت في ذات الوقت  على إرسال إشارات ذات دلالة تبين أن لها قنوات استخبارية مع الفصائل المتشددة، وربما اتصالات غير متقطعة مع بعضها أقلها مع جبهة النصرة النشطة على التراب السوري فقط، والمكونة من مواطنين سوريين في الغالب.

ورغم ذلك فإن حقيقة المسعى الروسي تكمن في استفزاز الغرب من خلال الساحة السورية. هذا ما يتضح بجلاء في الاقتراح الأخير الذي تضمن محاباة روسية صارخة للنظام في دمشق، إذ أرفقت مقترح التحالف الإقليمي بالتأكيد على دعم النظام سياسيا واقتصاديا وتسليحيا، معلنة رفضها سقوطه بالقوة العسكرية، رغم أنها رأته يتهاوى دون مقاومة تذكر في العديد من المناطق كتدمر في البادية ومحافظة إدلب في الشمال ومحافظة درعا في الجنوب.

- إقليميا: حرصت روسيا قبل تقديم الاقتراح كما فعلت قبل استضافة الاجتماعات التشاورية على وضع دول الإقليم المرتبطة بالأزمة السورية في صورة ما تقترحه بغض النظر عن تباين مواقف هذه الدول، حيث طافت الدبلوماسية الروسية على العواصم المعنية من طهران التي أمست السند الرئيسي للنظام السوري متشبثة بمعادلة حدية مفادها أن تظل سوريا كما كانت (تحت سلطة مطلقة للرئيس بشار الأسد) أو لن تكون لأحد إلى أنقرة التي تردد جهارا أنها لن تقبل بأقل من إزاحة الرئيس بشار الأسد، مرورا بدول الخليج التي تشارك تركيا ذات الهدف، رافضة في نفس الوقت بسط الهيمنة التركية على سوريا ومستقبل شعبها.

- دوليا: رغم الشكوك والتوجسات المتبادلة مع الدول الغربية لم تستثن موسكو العواصم الكبرى من التواصل لإدراكها أن هذه الأخيرة أحرص على محاربة الإرهاب، ومهتمة بذلك أكثر من اهتمامها بإسقاط النظام السوري، الذي تريد إبقاء هيكله مع تغيير شخصياته فقط مخافة السقوط في فوضى مماثلة لما حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي سنة 2003. وهذا ما يفسر حديثها المتواتر عن حل سياسي للمأساة السورية وفق مقررات جنيف 1 وجنيف 2 بغض النظر عن اختلاف القراءة الروسية لهذه المقررات عن قراءة تلك العواصم لها.

ويبدو من تحركات الدبلوماسية الروسية التي تلت الاقتراح المفاجئ أن روسيا تعول على الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية للترويج له إقليميا حيث لم يبد أي طرف بما في ذلك النظام السوري وأنصاره أي حماسة تذكر للاقتراح رغم ما لوحظ من تعتيم إعلامي عليه سعوديا وأردنيا ولكن من دون مهاجمته كما جرت العادة من قبل؛ الأمر الذي فسره البعض بأخذ مهلة للتفكير.

وفي معلومات مستقاة بصفة خاصة من بيروت أكثر العواصم تفاعلا مع الأزمة السورية، فإن المقترح الروسي يبدو صبا للزيت على النار في ضوء تصاعد الاقتتال الدامي على طول الخريطة السورية. فما يهم روسيا حسب بعض المصادر أمران اثنان :

- عدم تكرار خطأ تصديقها للحلف الأطلسي في الأزمة الليبية حيث بدت كمن يبارك إسقاط العقيد القذافي بتلك الطريقة البشعة من دون أي استفادة مادية أو إستراتيجية تذكر.

- السعي إلى إنهاك المقاتلين المتشددين الشيشان المتوافدين على ساحة "الجهاد السورية" أكبر وقت ممكن، وإن أمكن إقبارهم هناك خشية عودتهم لتعكير صفو سلام مناطق القوقاز الروسية، الذي استثمرت فيه موسكو كثيرا، وما يزال هشا إلى الآن.

وبطبيعة الحال، فإن هدف إنهاك القوى المتشددة ومرتزقة الاتجار بالدين تلتقي حوله أيضا القوى الكبرى، التي بادر الرئيس الأمريكي أمس إلى التعبير عن موقفها يوم أمس بالتأكيد على أن محاربة داعش في سوريا تتطلب توحيد جهود كافة القوى السورية في حكومة واحدة بدون الرئيس الأسد، في رد ضمني على الطرح الروسي الذي ترى الأنظمة الإقليمية المعنية به أن إيجابيته الوحيدة تكمن في تأكيده على إنهاك الإرهابيين وإقبارهم في التراب السوري قبل أن ينتشروا في دول المنطقة.

وفي وضع معقد بالحسابات المتقابلة والمتعارضة والمتداخلة يغدو واضحا بأن خروج سوريا من أوحال المستنقع العميق الذي سقطت فيه غير وارد في الظروف الراهنة، وأن الشعب السوري مطالب بدفع المزيد من فواتير الدم والتهجير والبؤس والحرمان إلى أن يستعيد وعيه ويدرك ألا أحد يحك جلده مثل ظفره.