الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد نجيب بقاش: المبررات الثمانية لمراجعة عقوبة الإفطار في رمضان

محمد نجيب بقاش: المبررات الثمانية لمراجعة عقوبة الإفطار في رمضان

"من يرغب في اختبار حقيقة المجتمع فليفطر في شارع محمد الخامس"، عبارة صدرت مؤخرا عن وزير العدل في ظل الجدال الحامي الوطيس بين دعاة تجريم الإفطار علنا في رمضان وبين الجانب الآخر الذي يرى في الأمر شأنا دينيا خالصا لا يحق للقانون أن يتدخل فيه .

أولا: مثل هذا التعبير الغريب لا يليق بالمسؤول الأول عن تطبيق السياسة الجنائية والقانون الجنائي لما يحمله من انسياق مبطن ومباركة غير مباشرة للانتقام المباشر للعامة عبر تنفيذها للمقتضيات القانونية والعقاب بنفسها بدل السلطات القضائية المختصة. إن هذا الموقف هو تماما نفس موقف رئيس الحكومة قبل نحو مدة عندما لمح، أثناء نقاش دار بينه وبين الأستاذ محمد الصبار، إلى الأحقية المشروعة في أن يثأر الزوج مباشرة لشرفه إن وجد زوجته مع رجل آخر، علما أن بعض الفقهاء كابن حبيب (تلميذ الإمام مالك) رأى أن الزوج في هذه الحالة مجبر على إخبار السلطة وعليه الأدب والعقاب إن هو استعجل قتله، خاصة إذا لم يكن يرافقه أربعة شهود يعاينون وقوع جريمة الخيانة الزوجية بصورة تامة وكاملة .

ثانيا: لماذا هذا التركيز فقط على خرق ركن الصيام علنا، في حين أن صلاة الجمعة هي كذلك وردت في القرآن الكريم بصيغة آمرة، كما أن الفقهاء أفتوا ببطلان المعاملات التي تجري من وقت النداء لها حتى انتهائها، ومع ذلك لم يعمد المشرع المغربي على ترتيب أي جزاء مدني أو جزائي على تركها، فالمقاهي والمتاجر مثلا تظل عادة مفتوحة وممتلئة ساعة إقامتها.

ثالثا: لم يثبت في القرآن ولا في السنة النبوية ما يوجب زجر المفطر عمدا بعقوبة مادية.. فالإفطار عمدا في رمضان رتب عليه القرآن جزاء دينيا محضا هو عبارة عن ثلاث أنواع من الكفارة وردت على سبيل التخيير، هي: صيام شهرين أو عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا.. وقد أكد الإمام مالك أنه يستحب الإطعام على العتق والصيام، أما الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد أبدى مرونة أكثر عندما جاءه رجل، وكان فقيرا، أخبره بأنه وقع على امرأته في رمضان، فلما سأله عما إذا كان يمكنه عتق رقبة، فأجاب بالنفي، ثم سأله عن إمكانية صيامه شهرين، فأجابه بعجزه عن ذلك، ثم سأله عما إذا كانت له القدرة المادية على إطعام ستين مسكينا، فأجابه الرجل بأنه لا يوجد أفقر منه، فضحك النبي (ص) ثم ناوله تمرا وأمره أن يتصدق به على أهله، معتبرا ذلك بمثابة كفارة .

رابعا: "جريمة" الإفطار جهارا في رمضان هي اليوم فعل يتقاطع فيه الديني والقانوني، وهو ما يستوجب التدقيق والتحري فيه قبل الإقدام على أي إجراء قانوني في هذا الشأن، على اعتبار أن الإفطار قد يكون لأسباب شرعية مرخص لها كالسفر والمرض، وهي ظروف تستعصي على التأكد سواء من قبل الجمهور أو السلطات القائمة. فمن أين للضابطة القضائية أن تتأكد من المبررين، فمثلا قبل البارحة سافرت من طنجة إلى الرباط، حسب الشرع فإن الإفطار مرخص لي.. لنتصور مثلا أني أخذت سندويتشا وشرعت في أكله داخل سيارتي، وفجأة ضبطتني الشرطة.. كيف سيمكنني حينذاك أن أبرر لهم أني في سفر، أين هو هذا المكان الذي سأنزوي فيه حتى لا أفطر جهارا، والحال أن المقاهي والمطاعم تكون مغلقة والعيون متربصة.. المسألة تزداد تعقيدا بالنسبة للمرأة، إذ قد تعرض نفسها لخطر اعتراض سبيلها إن هي توارت عن الأنظار في مكان غير آهل فقط لتأكل مستفيدة من رخصتها الدينية من سفر أو مرض أو عادة شهرية .

خامسا: تجريم الإفطار المتعمد والعلني في رمضان أمر طرأ لاحقا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك رأى جانب من الفقه أن العقوبة تسقط عنه إن جاء تائبا.. وهنا لا ندري عما إذا كانت توبة المفطر وتعبيره عن ندمه قد ينفعه اليوم أمام المحكمة وهو واقف أمامها وقد توبع في حالة اعتقال مثلا.

سادسا: الإفطار جهارا في رمضان، بغض النظر عن وقوعه بحسن نية أو لا من قبل المفطر، قد يجد فيه البعض نوعا من الاستفزاز المعنوي لمشاعرهم الدينية غير أنهم بالتأكيد غير عارفين ولا مطلعين على الظروف الشخصية ولا الرخصة الدينية المفترضة التي خولت للمفطر أن يأكل أو يشرب أمامهم، لذلك وجب عدم الإسراع في الظن سوءا به والحكم عليه من النظرة الأولى حتى لا تتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه ويصبح ضحية هجوم واعتداء وهذا للأسف ما هو مرجح حدوثه. و لقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام، ألين وأرحم وأكثر حكمة وتريثا في الكثير من المواقف المستفزة المشابهة.. فقد ثبت أن أعرابيا دخل المسجد وانزوى يتبول في أحد أركانه، فلما رَآه بعض من كان هناك هموا بمنعه، فنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: دعوه لا تزرموه، ثم نصحه بهدوء بعد أن فرغ بألا يعيد ما فعله لأن المساجد للصلاة .

سابعا: في الفقه الجنائي الإسلامي، والذي يطلق عليه السياسة الشرعية والتعزير، يتداخل كثيرا ما هو ديني محض مع ما هو قانوني محض في الأفعال التي اعتبرها الفقهاء جرائم ورتبوا لها عقوبات مخصوصة وهي غير أحكام الحدود الخمسة المعروفة. وهكذا أوجدوا درجات من العقاب على أفعال وانتهاكات لأوامر لم يرد بها نص ديني صريح وتبدأ بالعقاب اللفظي الذي يستهدف الضمير الديني والأخلاقي للفرد وتنتهي بالعقاب المادي الذي يوجد الإعدام على رأسه. يقول ابن القيم: العقوبات تختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف الجرائم وكبرها وصغرها وبحسب حال المجرم في نفسه، فهي بحسب الجناية في العظم والصغر وبحسب الجاني في الشر من عدمه. وعلى هذا الأساس اعتبر الفقهاء مجرد الشجب اللفظي لبعض التصرفات المستهجنة دينيا نوعا من العقاب يستهدف بالأساس الضمير الديني للفرد المسلم وهو ما يسمى بالتبكيت و يدخل فيه كذلك تقديم الوعيد والتهديد بالعقوبة دون تنفيذها، فمثلا لا توجد عقوبة مادية محددة لإذاية الجار وهو فعل صعب إثباته رغم أن معاملته بالحسنى حضت عليه الشريعة، لكن الفقهاء واستنادا على واقعة رواها أبو هُريرة من أن رجلا اشتكى للرسول عليه الصلاة والسلام جاره الذي يؤذيه، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: انطلق وأخرج متاعك إلى الطريق، فانطلق فأخرج متاعه ،فاجتمع عليه الناس فقالوا ما شأنك؟ فقال: لي جار يؤذيني، فجعلوا يقولون، اللهم العنه، اللهم أخرجه... فبلغه ذلك فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا آذيك... اعتبروا هذا النوع من الاستهجان اللفظي عقابا في حد ذاته لأنه يكون صادرا عن نظرة مجتمعية محملة بالازدراء فيكون بالتأكيد أزجر عقاب يواجهه الفرد في المجتمع الديني الذي ينتمي إليه .

ثامنا: هناك بعض التصرفات من الأفضل ألا يتطور فعلها أو الإمساك عن إتيانها إلى جريمة معاقب عليها ماديا لصعوبة التثبت منها ولارتباطها الشديد بالحياة الشخصية للفرد وبضميره الديني الخفي الذي يصعب الكشف عنه كالإيمان بالله والصلاة والصيام. فحسب الحديث الشريف: أن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، و"جريمة " إفطار رمضان من الأمور التي يرجح بكثرة أن يقع فيها الخطأ نظرا لصعوبة إثبات قيام أركانها التكوينية خاصة الركن المعنوي أي القصد الجنائي للشخص الذي أفطر وصعوبة إثبات قيامه لارتباطه الشديد بضميره الديني كما سبق القول وللرخص المتعددة التي منحتها الشريعة لإفطاره ومدى الصعوبة والإحراج في إثباتها اليوم كالسفر والكشف عنها كالمرض والحيض.. فالدين يسر لا عسر، وهو أخلاق قبل أن يكون طقوسا وشعائر.