الجمعة 19 إبريل 2024
مجتمع

الحسن اللحية: اليسار المغربي يوجد حيث لا يفكر و يفكر حيث لا يوجد (3/3)

الحسن اللحية: اليسار المغربي يوجد حيث لا يفكر و يفكر حيث لا يوجد (3/3)

نستخلص من خلال ما تقدم أن اليسار المغربي تتعدد هوياته اليسارية بحسب ما يقوله عن نفسه، لكنه قد يتشابه في تصوراته الإصلاحية للتعليم إن وجدت (نفس الشيء في باقي القطاعات الأخرى)، وذلك للأسباب التالية:

أولا: رغم تنوع اليسار وتنوع ما يدعيه أنه تعدد في مرجعياته فإنه لم يستطع أن يراكم في المجال النظري ليحدد الطبقات في المغرب، وبالتالي سيضعنا أمام تصور لما سيكون عليه التعليم الشعبي الديمقراطي.

فالعجز الفكري في قراءة المغرب طبقيا جعل اليسار ممزقا بين القراءات الانقسامية (واتيربوري مثلا) والقراءات النيوماركسية (باريتو) والقراءات الانتربولوجية (بول باسكون).

وهكذا ستجد اليسار ممزقا بين استعمال مفاهيم كثيرة في الآن ذاته دون حدود أو حذر ابيستمولوجي، ففي الخطاب الواحد، الفرد الواحد، التيار الواحد، يمكنك أن تسمع معجما لا يميز بين المفاهيم مثل الكومبرادوية والطبقة المسيطرة والطبقة الكادحة والطبقة العمالية والبورجوازية والنخبة والمأجورين والشرائح والفيئات والجماهير الكادحة والجماهير الشعبية..

إن هذا الخلط  المفاهيمي الكبير داخل الخطاب الواحد، الحزب الواحد، النقابة الواحدة، الحركة الواحدة، سينعكس حتما على مقاربته للتعليم من وجهة نظر   سياسية وفكرية ونقابية : أين نصنف رجال ونساء التعليم؟ وهل من نقابة أو حزب يعبر عنهم كما هو حال الأحزاب الاشتراكية والعمالية في أوربا؟

إن استعصاء تصنيف نساء ورجال التعليم من وجهة نظر فكرية وسياسية ونقابية ويسارية مغربية، نجد التعبير عنه في الخطاب النقابي ذاته. فهذا الخطاب ظل مشروخا وممزقا منذ الستينيات من القرن العشرين باستعماله لمفاهيم متنافرة كليا مثل: الطبقة والشريحة والفئة والمأجور ... بل إن الخطاب النقابي الذي لم يستطع اجتراح تصور خاص برجال ونساء التعليم (وكل القطاعات) استغرقته الفئوية بالذات فأضحى يمايز بين الفئات في التعليم ويفاوض من أجل تكريسها، وهو ما يعني أنه لا يمتلك تصورا لما ينبغي أن يكون عليه التعليم ككل.  فما المساواة إذن؟ ولماذا تقبل نقابات اليسار بالتفاوتات في التعليم (فكرة السلالم مثلا)، سواء في المدخلات أو في الحياة المهنية؟ وكيف يمكن تحقيق العدالة بين نساء ورجال التعليم ولهم جميعا؟

ها هنا تكمن المعضلة بالذات، حيث يعجز اليسار المغربي عن وضع تصورات عادلة منصفة ديمقراطية تهم الولوج إلى مهن التربية والتكوين والحياة المهنية للعاملين فيه، مرورا بالتكوين والممارسة؛ ولذلك فإنه يقبل بالأمر الواقع المطروح من لدن الدولة.

ثانيا: إن اليسار المغربي المستند إلى الماركسية بجميع تلاوينها لم يدرك التحولات التي أصابت مفهوم العمل le travail  منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.  فمفهوم العمل ارتبط بماركسية القرن التاسع عشر تحديدا، ومع بداية القرن العشرين دخل العمل في أزمات كثيرة فظهرت مفاهيم تحيل إلى العمل أو تشبه العمل أو تفيده بالمعنى فقط؛ حيث نجد منذ ذلك الحين، أي منذ بداية القرن العشرين مفاهيم كالشغل والوظيفة والمهمة والدور والمهنة..

ستزحزح هذه المفاهيم الجديدة الأساس الماركسي ابيستيمولوجيا، والاكتفاء بالكلام العمومي كترديد لفظ الأجراء مثلا لم يعد ذا جدوى لأن الأجير أضحى متعددا ومتنوعا وله درجات مختلفة، بل إن الشغل بدأ يرتبط بأبعاد كثيرة كالتكوين ونوع الدراسة.. وهذا ما يعني الانتقال من العمل (القوة الفيزيائية والعضلية للأجير مع ماركس) إلى شيء آخر (أنظر مقالاتنا من العمل إلى الشغل: ميلاد الكفاية).

ستزداد الأمور تعقيد حينما يصبح الشغل مدار تخصصات معرفية كثيرة منها هندسات الشغل وتنظيم الشغل وعلوم التدبير وسيكولوجيا الشغل وسوسيولوجيا المهن.. وهكذا دخل الشغل محفل المعرفة واحتفاليتها الماكرة ليسقط من حيث المطالب في خطاب الكفايات والتأهيل والنزعات التبشيرية القائلة بالقابلية للشغل.

إذن لم يعد الشغل حقا مباشرا للفرد –المواطن- الإنسان، بل أصبح حقا مشروطا تحدده المعرفة كما يحدده سوق الشغل.

لقد سقط يسارنا المغربي في هذه المتاهة وتبناها دون أن يدري بأن هذا التحول أضحى بقوته هو الواقع، وأن الوعود بالتشغيل ومطلب التشغيل الذي يرفعه اليسار المغربي نقابيا وسياسيا هو الحل الترقيعي للتشغيل ذاته في غياب كلي لأي تصور يساري في هذا الباب (حالات الحاصلين على الشواهد في وزارة التربية الوطنية وتوظيف أصحاب الشواهد تفسر ذلك).

ثالثا: إن اليسار المغربي وهو يتبنى اليوم خطاب الكفايات في التعليم لم يدرك أن خطابه أصبح شيء آخر غير اليسار، بل لم يع أن المقاربات الكفاياتية للشغل والمهن والأداء والمعارف.. تقيم التراتبية وتفتح المجال على الانتقاء، وهو ما يناقض أطروحات اليسار في العمق من حيث المنطلقات التي ينطلقون منها كالحق والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص في الشغل..

وإن كان خطاب الكفايات يجر كثيرا من الأزمات الفكرية لليسار من حيث المطالب المعرفية المتعلقة بالمهن والتمهين والمهنية فإن اليسار المغربي بتنوعه عجز عن وضع تصورات للتأهيل كي يضمن عدالة اجتماعية مهنية، وهو ما يفسر ترديد نقاباته للأقدمية في المنصب كشرط للترقي بدل شيء آخر.

والحاصل أنه منذ أن ساد خطاب الكفايات في الشغل أصبح الشغل سوقا لا تضمن الحق إلا بشروط يحددها المجال: كفايات مهنية، المهنية، تقويم الأداء، الملف الشخصي، التجارب المهنية، التعاقدات المهنية.. إنه عالم يفكر بالمقاس وعلى المقاس، عالم دارويني بامتياز ، يفكر بالدور والمهمة والأداء والنجاعة والمردودية.. وهي مفاهيم برانية عن الخطاب الماركسي واليساري تؤزمه يوما عن يوم وتبين محدوديته وعجزه وإشباعه بلغة الفيزيائيين.

رابعا: لا يقتصر العجز الفكري على ما ذكرناه سابقا، بل إن اليسار حينما يجتهد في أمر كالتعليم تجده تجريبيا  (حالة وزراء منسوبين على اليسار في التعليم)، ويتبين أن هذا العجر بوضوح.

ولعل هذا العجز يطال هوية النظام التعليمي الذي يتبناه اليسار ذاته، ويمكن التفصيل في هذا الأمر  وفق مايلي:

إن اليسار المغربي المدافع عن المدرسة الوطنية العمومية لا يقدم أي تصور عنها (كيف هي، نظامها، أسلاكها، معارفها، قيمة شواهدها.. مما يجعله متصالحا مع التعليم الخاص في حياته اليومية؛ وهذا أول مؤشر على فصاميته الفكرية/ المعيشية؛ وبمعنى آخر فإن اليسار يقبل بنظامين تعليميين يتعايشان يكرسان التفاوت بين أبنائه على الرغم من شعاراته وخطاباته الاستهلاكية حول المدرسة الوطنية العمومية.

لم يأخذ اليسار يوما قضايا التربية والتكوين والتعليم بجدية نظرية ليقترح تصوراته  وبدائله، بل اكتفى دوما بتخريجات تقنية لا تتعدى ما تطرحه الدولة إن لم يكن هو المروج (الرسمي دون وعي منه) لمقترحاتها.

لم يتناول اليسار يوما الخطاب التربوي والبيداغوجي نظريا، فهو لا يهتم به في لحظات الترقي، وفي غياب ذلك يركن إلى ما تطرحه الدولة من بدائل في هذا الباب. أليست البيداغوجيا تفكيرا سياسيا في آخر المطاف؟

لا يتوفر  اليسار المغربي على فلسفة في التربية، ومعنى ذلك أنه لا يتوفر على فلسفة تفكر في الطفل والمجتمع والمستقبل. فالطفولة كما يفهمها اليسار تختزل في تصورات حقوقية جافة وأنشطة جمعوية تنشيطية. فما الطفولة إذن ؟ ولماذا يغيب خطاب الطفولة في الفكر الفلسفي والتربوي والبيداغوجي اليساري إن وجد؟ وهل يستقيم التفكير في التربية بدون تفكير في الطفولة؟

وخلاصة القول أن اليسار المغربي يعيش أزمة حقيقية ، وهو يتناول التعليم ، وينطبق عليه القول الفلسفي المعاصر  القائل : إنه يوجد حيث لا يفكر و يفكر حيث لا يوجد.