الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

المريزق المصطفى: النخب المكناسية بين المؤسسات التقليدية والتطلعات الحداثية

المريزق المصطفى: النخب المكناسية بين المؤسسات التقليدية والتطلعات الحداثية

هل من الضروري العودة اليوم من جديد للتفكير في معالجة القضايا التاريخية لمدينة مكناس انطلاقا من نزعات الوعي الناجمة عن حركة الصراع والتطور لهذه المدينة، أم انطلاقا من تأثير الحصيلة المعرفية بالواقع و التحديات التي يفرضها المستقبل؟

بصرف النظر عن الدوافع التي قد تحركنا لطرح مثل هذه الأسئلة، يبدو من الواضح أن التعبير عن النموذج البديل يفترض قبل كل شيء التخلص من التبعية للجهاز المؤسساتي الذي ينتج ويعيد إنتاج النظم الاجتماعية التي تخرج من رحيم النظام السياسي الذي يعتبر في العلوم السياسية الإطار العام للنظام الاجتماعي. ونعني هنا بالنظام السياسي مؤسسات السلطة، جهاز الدولة ووسائل عملها وكل ما يرتبط به (حسب موريس دوفيرجيه).

لعل الحديث هنا عن واقعنا المتخلف لا يكفي منا أن نكون على علم و دراية بما يحدث من حولنا، ولا يكفي كذلك الوعي بمعالم التخلف وما تطرحه هذه الأخيرة من أسئلة حول ظواهره وتجلياته.

إن أزمة علاقة المدرسة بالمجتمع باتت من العناصر التي يتطلب فهمها ودراستها، خاصة وأن الوظيفة الاجتماعية الأساسية التي يقوم بها نظام التعليم باتت تكرس هذه الأزمة من خلال تمرير أهداف ومناهج ووسائل وإدارة وأطر تعليمية وتربوية، إلخ... تنتج الخضوع لقيم النفور وانعدام الثقة والتشكيك في كل المشاريع والتهرب من المسؤولية والتنكر لقيم الديمقراطية والابتعاد عن تحمل المسؤولية.

ما يحدث اليوم في مدينة مكناس من هروب النخب من الفضاء السياسي، يعتبر جزء من ما أنتجته التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عمقتها أزمة علاقة المدرسة بالمجتمع. فدور المدرسة في المدينة أصبح دورا ثانويا يقتصر على تقديم بعض الخدمات البسيطة التي لا ترقى إلى مستوى الإبداع وتعليم آليات الحكامة الجيدة واحتضان الكفاءات القادرة على المساهمة في نمو وتنمية المدينة والمشاركة في صناعة القرار أو التأثير فيه.

مكناس اليوم، مثلها مثل العديد من المدن المغربية، تعاني من تراكم مشاكل معقدة ناتجة في المقام الأول عن غياب إستراتيجية واضحة لدى الفاعلين المحليين، وغياب آليات التحفيز والقيادة في المقام الثاني، وغياب التفاعل الايجابي مع طموحات أهل المدينة والفاعلين فيها.

لقد أكدت العديد من الظواهر الاجتماعية أن ولادة النخب في مكناس، سواء تعلق الأمر بالنخب الإدارية، أو النخب الاقتصادية، أو النخب السياسية أو الدينية، كانت في غالبية الأحيان ولادة غير طبيعية. وهي بصورة عامة، نخب تقليدية لا تؤمن بالتنافسية ولا بالتراتبية الجماعية المتولدة عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (مثلا). وهي بالتالي فئات لا يعتمد عليها في الاستقرار والديمومة. والنتيجة هي تشويه الفضاء العام وزرع  قيم المحسوبية والزبونية والمحاباة، بدل إنتاج قيم التقدم والتطور.

إن مثل هذه النخب تحجب الحقيقة والمعرفة، وتدفع النخب ذات المرجعية الحداثية والديمقراطية إلى الابتعاد عن الواقع والهروب إلى الخلف، والاهتمام بالإنجاب وتربية الأطفال وتوفير شروط تمدرسهم، والسهر على راحتهم والاستثمار في العائلة ومتطلباتها المعنوية والمادية.

إن التركيبة البشرية للجماعة الحضرية لمدينة مكناس تبين بالملموس هروب ونفور النخب الحداثية والديمقراطية من تحمل المسؤولية رغم ما ينص عليه الدستور من مبادئ التدبير والتعاون والتضامن وتأمين مشاركة السكان في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية المندمجة والمستدامة.

إن قراءة انعكاسات هذا الوضع، تبين التكلفة الباهظة التي تؤديها الساكنة في العديد من المجالات التي تخص الحياة الحضرية. كما أن انعكاسات المخططات العشوائية على ساكنة المدينة، جعلت من مكناس مدينة بدون هوية وبدون طعم ولا مذاق.

فرغم التوسع الذي تحقق في اتجاه إعمار المدينة، تعيش مكناس هوة حضارية نتيجة غياب نسق حضري ووجود أنماط ومظاهر لم تشملها عملية التغير الحضري، أفقدتها وظيفتها السياسية والثقافية والصناعية.

إن الجماعة الحضرية لمكناس ليست مجرد حجم وكثافة سكانية، وليست مجرد أنشطة مادية وتكنولوجية تطبع بها المجتمع المكناسي. و لهذا، فدور النخب "الصالحة" في النمو والتطور  بات دورا محوريا في التأثير على نمط الحياة وفق ما يحتاج له البناء والتنظيم الاجتماعي من وظائف حقيقية سياسية تخص تنمية المؤسسات الإدارية، واقتصادية تخلق شروط الإدماج الاقتصادي، ثقافية تربط بين المدرسة والمجتمع، واجتماعية تتعلق بالحماية الاجتماعية والسلم والأمن والأمان.

الآن، ونحن على أبواب استحقاقات جديدة، من الصعب الإحاطة بكل خصوصيات مدينة مكناس، ومن الصعب إقناع النخب الحداثية والديمقراطية بالدخول في الممارسة السياسية اليومية. وهو بالتالي ما يصعب فهمه أو الحكم عليه لاسيما في ظروفنا الحياتية الحالية التي توفر لغالبية الناس المعلومة والتواصل الواقعي والافتراضي والتنقل والإعلام والتكنولوجية.

إن أزمة المدرسة، في الواقع، انعكاس لأزمة الإنتاج الاجتماعي نفسه، لذا فإحداث تغيير جذري في منظومة التعليم يطرح مهمة سياسية كبيرة تستلزم تغيير لصالح القوى الاجتماعية الحداثية والديمقراطية ولنخبها التي لها  المصلحة الأولى في تحرير المجتمع من مدرسة تنتج التمييز، ومقاومة المد الرجعي والمحافظ.

وإذا كان هذا الطموح يتطلب زمنا آخر غير زمننا، فلنا أن نختار بين الانتظار وبين المشاركة والاقتراب من الواقع والانخراط في كل الديناميات المجتمعية التي لا تخشى التطور الجديد ولا المصلحة العامة، لكي لا نكون من أولائك الذين يطلبون كل شيء وغير مستعدون للتضحية بأي شيء.