الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

مصطفى يوسف اللداوي: قيادةٌ فلسطينيةٌ هرمةٌ وأخرى أزمةٌ

مصطفى يوسف اللداوي: قيادةٌ فلسطينيةٌ هرمةٌ وأخرى أزمةٌ

ليست المشكلةُ في القيادة الفلسطينية، السلطة والفصائل، والقوى والأحزاب والحركات، والنقابات والاتحادات، أنها قيادةٌ هرمةٌ وعجوزٌ وحسب، وتاريخيةٌ منذ التأسيس، وعتيقةٌ منذ الانطلاقة، وخالدةٌ حتى الممات، وباقيةٌ تمثالاً مجسماً ورمزاً مقلداً بعد الموت ورغم الغياب.

فهي القائد الأوحد والزعيم الملهم، التي عز نظيرها وقلَّ مثالها، وهي عرفاً وواقعاً قياداتٌ تاريخية، ورموزٌ وطنية، يحفل سجلها بالمعارك، وتاريخها بالبطولات، التي ما زالت آثارها باقية، وعلاماتها قائمة، ما يجعلنا نحفظ فضلها، ونذكر جهدها، ونكرمها في حضورها وغيابها، حباً أو خوفاً، رغبةً أو رهباً، حرصاً على البقاء، ومخافة الشطب والإلغاء، والتشويه والتلويث، إذ أنها بزبانيتها قادرة، وبأجهزتها حاضرةٌ دوماً وجاهزةٌ أبداً، والويل كل الويل لمن جربها، أو عاندها فنزل عند حكمها، وخضع لقضائها، ووقع تحت سيفها، وناله عقابها، ولحق به حرمانها، وتناوشته بسفاهتها صبيانها.

بعضها قياداتٌ مسنةٌ عجوزٌ، هرمةٌ مترهلة، اقتربت من الخرف، وطال عقلها التلف، تلبس ثوباً أكبر منها، وأكثر اتساعاً من حقيقتها البسيطة، فتبدو فيه صغيرةً ضئيلة، تثير الشفقة، وتذرف الدمعة، وتحض على الصدقة، يرأف بها شعبها، ويحزن عليها محبوها، ولكنها تصر على البقاء، وتتمسك بالوجود.

قد حكمَ عقلَها واقعُ العقودِ الأخيرةِ من القرنِ العشرين، التي سادتْ فيه وتمكنتْ، وكانت لها فيه صولاتٌ وجولاتٌ، عَلَتْ فيها علواً كبيراً، وأفسدتْ فساداً عظيماً، وحكمتْ وظلمتْ، وسادتْ وعاثتْ، ولكنها اليوم باتَتْ غير قادرة على الخدمة، وأصبحتْ في حاجةٍ لمن يخدمُها ويحملُها، ويمسكُ بيدها ويسندُها، ويكتبُ لها ويملي عليها، ويقرأُ لها ويلقنُها، إذ أنها تنسى وتخلطُ، وتغفلُ ولا تركزُ، وتمشي وتتعثرُ، وتتحدثُ وتتلعثمُ، وتحاولُ وتفشلُ، عييةٌ ضعيفة، ومرتعشةٌ مهزوزة، ومسكينةٌ تثيرُ الشفقةِ وتحزنُ القلبَ.

قد أصبَحَتْ خارجَ إطار الزمن الراهن، وبعيدةً عن الواقع القائم، وغيرَ قادرةٍ على متابعةِ المستجداتِ، ومسايرةِ التطوراتِ، والتعاملِ مع المعطياتِ الجديدة، والمفاهيمِ المستحدثة، إذ أنها تنتمي إلى جيلٍ آخر، وزمنٍ مختلف، لا يشبه زماننا ولا يماثلُ أوقاتنا، في ظلِ طفراتِ الإعلام والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي اللحظية، وتقنياتِ الحداثةِ السريعةِ، التي لا تعرفُ حدودَ الزمانِ والمكانِ، ولا قيودَ السياداتِ والخصوصياتِ، وقد لا تعرفُ حاجة شعبها، وتجهلُ معاناته، وتتعامى عن واقعِهِ المريرِ، وتغيب عنها حدودُ بلادِها، وسيادةَ أوطانها، ويختلطُ عليها الغريبُ والقريبُ، فلا تدري أيها أقربُ إليها نفعاً.

وقياداتٌ أخرى وإنْ لم تكن هرمةٌ وعجوزٌ، ولم تخرف وتنسَ، ولم تفقدْ القدرةَ على القيادةِ والإدارةِ، والتركيزِ والمتابعةِ، إذ أنها مازالت قوية ومسيطرة، ومالكة وحائزة، وحاضرة ومتمكنة، ولديها القدرة على التعبير، وتملك ناصية البيان، فتحسنُ إذا تحدثت، وتأسرُ إذا خطبت، وتسحرُ العيونَ والأسماعَ إذا أطلَّت، إلا أنها أزمةٌ وقد طالَ بها المقامُ، وبقيت في مواقعِها لعقودٍ، تتمسكُ بالمنصب وتحرصُ عليه، وترفضُ التنازلَ عنه طوعاً أو كرهاً، أو التخلي عنه انتخاباً واصطفاءً، ولا يبدو أنها عزفت أو ملت، أو تهيأَت واستعدَت للمغادرةِ، وتركِ المجالِ لغيرها والفرصة لسواها، ذلك أنها تبدل وتغير، وتضيف وتشطب في اللوائح والنظم لتبقى، وتُغيب وتستثني من عارضها لئلا يمنعها.

بل إنها تفكرُ في توريثِ أبنائها، إن تعذرَ عليها البقاءُ وصَعُبَ، ورفضت الأمةُ وجودَها وقررت تغييرها، أو توصي بأحدِ المقربين منها، والمناصرين لها، والمدافعين عنها، ممن صنعتهم بأيديها، وأنشأتهم على عينها، وأنفقت عليهم كثيراً لدوام ولائهم لها طويلاً، وعدم التخلي عنها والانقلاب عليها ولو كانوا رفاتاً وعظاماً في القبور، أو محالين على المعاش في البيوت والدور، ذلك أنها تحرص على بقاء اسمها محفوراً في الذاكرة فلا يُنسى، كقول الشاعر في الحنين إلى الخمرِ:

"إنْ متُ فإلى جنبِ كُرمةٍ فادفُنَني/ فإني أخشى إن مِتُ ألا أذوقَها"

إنها بنوعيها قياداتٌ لا ترى نفسَهَا خارجَ الموقعِ، ولا تستطيعُ العيشَ بعيداً عن المنصب، ولا يهمها أن تفرطَ في الثوابتِ من أجل أن تبقى، أو أن تتنازلَ عن القيمِ لتكون، أو أن تتآمرَ لتحكمَ، وتغدرَ لتشطبَ، وتخدعَ لتقنعَ، وتراوغَ لتطيلَ فترةَ المكوثِ وعمرَ السلطةِ وبريقَ الحكمِ والجاه، وقد بات لديها من الخبرةِ المتراكمةِ، والتجربةِ والممارسةِ، ما يضمنُ لها البقاءَ، وما يحولُ أو يؤجلُ الرحيلَ، إذ تُقصي المعارضين، وتُبعدُ المناوئين، وتشطبُ من الحياة السياسية أو من الحياة كلِها من يعلو صوتُه معارضاً، أو يُشكلُ وجودُه خطراً، أو تنبئُ كلماتُه بثورةٍ، وخطواتُه بانتفاضةٍ تهددُ وجودَهم، وتعصفُ بأحلامهم، وتنذرُ برحيلِهم وخاتمةِ أيامهم.

إنهما سواء، لا يختلفان ولا يتفاضلان، قيادةٌ هرمةٌ عجوز، وأخرى متشبثةٌ بالحكمِ ومتمسكةٌ بالمنصبِ، كلاهما يحرصُ على المنصب، ويتطلعُ إلى حصانته، ويستفيدُ من امتيازاته، ويعتمدُ عليه في تصنيف المواطنين إلى مؤيدين ومخلصين، ومعارضين وخائنين.

ينظران في المرآةِ فلا يريان غير وجههما، وقد لا يعجبُهما ظلَهما إن سايرهما أو مشى معهما، وأولادهما بحسهما الميمون يمضون، وبنفوذهما العصامي يشقون الحياة، وبسلطانهما العريق يزيلون العقباتِ، ويتجاوزون التحدياتِ، فيزيد ثراؤهما، ويتضاعفُ مالهما، ويتعاظمُ نفوذهما، وكلاهما بفضلِ السلطانِ وسيفه يمضيان.

الأولى مصيبةٌ كبيرةٌ، والثانيةُ أزمةٌ خطيرةٌ، وكلاهما آفةٌ ومرضٌ، وشرٌ ووباء، ووجودهما في جسمِ الأمةِ سقمٌ، وبقاؤهما فيه استدامةٌ للمرضِ، أو استعجالٌ للأجلِ، ما يجعلُ استئصالهما واجبٌ، وإبعادُهما عن السلطةِ والحكمِ ضرورةٌ، لتشفى الأمةُ من هرمِها، وتستعيدُ شبابَها، وتستردُ عافيتَها بتغييرِ دمائها، وبنفضِ الغبارِ عن مؤسساتها، وإعادةِ تنظيمها وتنقيحها، لتكونَ أكثرَ عطاءً وأجدى نفعاً، ولتفسحَ المجال لآخرينَ قادرين وصادقين، ممن يؤمنون بالمشاركةِ، وبسنةِ التدافعِ الإلهيةِ في الحياةِ، إذ لا تقفُ الحياةُ عليهم، ولا تقتصرُ الدنيا على وجودهم، ففي الأمةِ أخيارٌ وأفاضلٌ، وأصحابُ حقٍ وأكارمُ، ممن تجتمعُ عليهم الكلمةُ، وتنحني أمامهم القاماتُ احتراماً وتفضيلاً.