الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

سعيـد موقـوش: قانون الملابس الداخلية

سعيـد موقـوش: قانون الملابس الداخلية

في ظل مجتمع يعيش على وقْـع "انفجار جنسي"، على حدّ تعبير الباحث المغربي عبد الصمد الديالمي، أو الرُّزوح في ضوء "فوضى جنسية" بتعبير الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي، تلك الفوضى التي تحدث عنها "دوركهايم"، التي "يتزعزع فيها نسق القيـم الذي ساد خلال قرون، ولا يعود قادرا على الاستجابة لمتطلبات الحياة الجديدة، دون أن يكون قد ظهر هناك نسـق جديد يعوّض سابقه"، طرحت وزارة العدل والحريات مسودة مشروع القانون الجنائي، التي قيل عنها ما لم يقله مالك عن الخمـر، حيث وصفتها الجريدة الأمريكية "الواشنطن بوست" بـ "قانـون الملابس الداخلية".

سنحاول من خلال هذه المقالة رصـد بعض الإشكالات القانونية والواقعية، التي جاءت بها هذه المسودة، بخصوص توسيع مجال تجريم التحرش الجنسي، الذي أضحى مجرما في الفضاءات العمومية وغيرها من الأماكن (الواقعية منها أو الافتراضية)، وليس فقط ذلك التحرش الجنسي الواقع في إطار علاقة التبعية بين الرئيس والمرؤوس، المنصوص عليه وعلى عقوبته في الفصل 1- 503 من القانون الجنائي.

هكذا جاءت المادة 1- 1- 503 من مسودة مشروع القانون الجنائي لتنص على أنه: "يعتبر مرتكبا لجريمة التحرش الجنسي ويعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من 2.000 إلى 10.000 درهم أو إحدى هاتين العقوبتين:

1- كل من أمعـن في مضايقة الغير في الفضاءات العمومية أو غيرها، بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية  أو لأغراض جنسية.

2- كل من وجه رسائل مكتوبة أو هاتفية أو إلكترونية أو تسجيلات أو صور ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية. تضاعف العقوبة إذا كان مرتكب الفعل زميلا في العمل أو من الأشخاص المكلفين بحفظ النظام والأمن في الفضاءات العمومية أو غيرها".

من خلال المادة المومأ إليها أعلاه، يمكن القول إن موضوع التحرش الجنسي كما جاء في مسودة مشروع القانون الجنائي، يطرح جملة من الإشكالات يمكن أن نسوقها كالتالي:

أولا: أن المقتضيات المتعلقة بجريمة التحرش الجنسي في مسودة مشروع القانون الجنائي، ما هي إلا صورة طبق الأصـل لتلك المقتضيات التي جاء بها مشروع القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، الذي تقدمت به وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، مع بعض الاختلافات الشكلية والموضوعية.

وعليه أصبح مشروع قانون محاربة العنف ضد النساء، بقدرة قادر، قانون يسري على كلا الجنسين، مع العلم أن المشروعين معا استعملا لفظ "الغير"، وبالتالي فإن استعمال مسودة مشروع القانون الجنائي للفظ "الغير"، لا يسعفنا للقول  بأن إرادة المشرع تسعى لتجريم ذلك التحرش العكسي الصادر من المرأة ضد الرجل، أو ما يصطلح عليه بـ "الإثارة الجنسية"، كظاهرة استعراضية، حتى أصبحنا نتحدث عما يعرف بـ "حرب المؤخرات"!

ثانيـا: أن صياغة المادة 1- 1- 503 المتعلقة بالحالات التي تعـدّ تحرشا جنسيا، هي صياغة معيـبة، حيث جاءت عامة وفضفاضة وحمّالة أوجه، وكل ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال كما يقول فقهاء الأصول، إذ جاء في هذه المادة أنه: "يعتبر مرتكبا لجريمة التحرش الجنسي ويعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من 2.000 إلى 10.000 درهم أو إحدى هاتين العقوبتين: 1- كل من أمعـن في مضايقة الغير في الفضاءات العمومية أو غيرها، بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية  أو لأغراض جنسية. 2- كل من وجه رسائل مكتوبة أو هاتفية أو إلكترونية أو تسجيلات أو صور ذات طبيعة جنسية او لأغراض جنسية". وبالتالي فإن فعل "الإمعان" و"المضايقة" جاءت فضفاضة، يبين مدى تخبّط المشرع الجنائي بين مفاهيم أدبية أكثر مما هي مفاهيم تنتمي إلى القاموس القانوني. ينضاف إلى ذلك عدم تحديد المشرع معنى "أغراض ذات طبيعة جنسية"؟ وكيف يمكن أن نميّز بين أغراض ذات طبيعة جنسية والأغراض التي ليست لها طبيعة جنسية؟

كما نتساءل، هل بإمكان القضاء المغربي رصـد جريمة التحرش الجنسي أمام هذه الضبابية التي تكتنف بنية المادة 1- 1- 503 من مسودة مشروع القانون الجنائي؟ وكيف له أن يتحقق من توافر عنصر "المضايقة"على اعتبار أن التغزّل بين الرجل والمرأة وتبادل كلمات الإعجاب والحب أمـر شائع على مستوى العلاقات الاجتماعية، بل وصل الأمر إلى أن تحولت بعض هذه العلاقات إلى أعراف اجتماعية، كالتي تعرف باسم "تقرفيـت" في بعض  قبائل الأطلس.

وتقعيدا عليه، فإن تمرير المادة 1- 1- 503 من مسودة مشروع القانون الجنائي، من شأنه أن يجعل القضاء المغربي، أشبه ما يكون بـ "هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، يسعى إلى إعمال قواعد أخلاقية تخاطب مشاعر المواطنين وما تكـنّ صدورهم! مع العلم أن أول شيء تعلمناه في ردهات كليات الحقوق بالمغرب، أن القاعدة القانونية هي قاعدة سلوك، وليست قاعدة أخلاقية تدغدغ عواطف الناس.

للإشارة فقد سبق للمجلس الدستوري في فرنسا، أن ألغى الفصل 33- 222 من القانون الجنائي الفرنسي، الذي ينص على أن "مضايقة شخص من أجل الحصول على خدمات ذات طبيعة جنسية يعاقب عليها بالسجن لمدة سنة واحدة مع غرامة مالية بقيمة 1500 يورو". وقال المجلس الدستوري في تبريره إلغاء الفصل 33- 222، أنه عملا بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فإن المشرع مطالب بتدقيق وتحديد الجرائم بعبارات واضحة بما فيه الكفاية.

ثالثـا: إن استعمال المشرع لعبارة "كل من أمعـن"، يدل على أن مجرّد تحقق فعل المضايقة في الفضاءات العمومية أو غيرها بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية، لا يُعـدّ تحرشا جنسيا، بل لابد من توافر صفة "الإمعـان"، التي تفيد المبالغة حسب ما جاء في لسان العرب لابن منظـور (أمعنتم في كذا أي بالغتم).

رابعـا: إن إقحـام المشرع الجنائي لجريمة التحرش الجنسي في العالم الافتراضي الإلكتروني، الذي يشهد فوضـى منظمة، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لسيْـل من الشكايات المسجلة بالنيابات العامة بالمحاكم. وبالتالي، فإن المقاربة الزجرية، لن تسعف كثيرا في مواجهة "الانفجـار الجنسي" الذي يشهده المجتمع المغربي، سواء على مستوى العالم الواقعي أو الافتراضي.

خامسـا: إذا كان المشرع الجنائي قد عمل على تكريس مبدأ المساواة بين الجنسين من خلال استعمال لفـظ "الغيـر" في المادة 1- 1- 503 من مسودة مشروع القانون الجنائي، فإننا نجده قد خرق هذا المبدأ من خلال الفقرة الأخيرة من نفس المادة، التي جاء فيها: "تضاعف العقوبة إذا كان مرتكب الفعل زميلا في العمل أو من الأشخاص المكلفين بحفظ النظام والأمن في الفضاءات العمومية أو غيرها"، ومن تـمّ كان الأجـدى بالمشرع استعمال لفظ "زميـل أو زميلـة في العمل"، وذلك إعمالا بمبدأ المساواة.

سادسـا: باستقراء المادة 1- 1- 503، يلاحظ بأن المشرع لم ينص على مقتضيات حمائية خاصة للطفل، تقضي بتشديد العقوبة على الجاني متى كان المتحرش به طفلا، بسبب عدم نضجه العقلي والعاطفي، مما قد يجعله يتأثر نفسيا بشكل كبير من سلوكيات التحرش الجنسي التي قد تدفعه إلى الانطواء والعزلة وبالتالي المساس بحياته.

سابعـا: نسجل على مستوى العقوبات المقررة لجريمة التحرش الجنسي في المادة 1- 1- 503 من مسودة مشروع القانون الجنائي، تراجع هذه الأخيرة بالمقارنة مع مشروع القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، الذي تقدمت به وزارة التضامن والأسرة والتنمية الاجتماعية، والذي يعاقب مرتكب جريمة التحرش الجنسي بالحبس من شهر إلى سنتين، بينما نجد مسودة القانون الجنائي، التي تقدّمت بها وزارة العدل والحريات، حددت هذه العقوبة من شهر إلى ستة أشهر، كما أن هناك اختلاف بين المشروعين على مستوى الغرامات المحكوم بها، ففي مشروع قانون محاربة العنف ضد النساء، تم تحديد الغرامة ما بين ألف وثلاثة آلاف درهم، أما في مسودة مشروع القانون الجنائي، فإن الغرامة محددة ما بين 2.000 إلى 10.000 درهم.